من أمتع نزهاتنا ونحن صغار دخول بيت جحا والضياع والتيه بين جنباته، والأجيال الجديدة لم تر هذا البيت رؤى العين ولم تتلمسه، وتعرفت عبر المنتجات التقنية الحديثة على لعبة شبيهة اسمها بيت جحا محتشدة بالمرايا المخادعة «المقعرة والمحدبة والمكبرة والمشوهة والمرعبة» التى تمط الوجوه وتغير الأشكال والأجساد وتلعب فى الأحجام فتبدد تركيزك وتزيد من ضياعك، هدف اللعبتين واحد وهو اختبار التركيز، لكن شتان بين الوسائل المبهرة، التى استخدمت فى اللعبة الحديثة، والبدائية التى كانت تتشكل منها لعبتنا القديمة كأغلب لعبات أبناء جيلنا، فنحن كنا نصنع ألعابنا بأيدينا، لظروف اقتصادية بحتة، ونستخدم فى سبيل ذلك عناصر بيئية من الطبيعة لحسن الحظ، كأغصان وفروع الشجر والزلط والصخر، ونتنافس فى تشذيب هذه العناصر لجعلها صالحة لما نبتكره من ألعاب، وبيت جحا كان موجودًا فى حديقة كل حى وكل منتزه، بأشكاله البسيطة حسب المساحة، إن كانت صغيرة الحجم يتم تشكيله من البوص الضخم على هيئة أعمدة متداخلة طبقا لمخيلة المصمم، وما بين كل بوصتين نبات اللبلاب يمنع الدخول، وتترك بعض المسافات مفتوحة تؤدى إلى دهاليز أخرى مسدود بعضها والبعض الآخر يؤدى إلى متاهة أخرى، وكان يشكل أيضا من الطوب أو الخرسانة فى الحدائق الكبيرة على هيئة علب مستطيلة متجاورة لها فتحات مختلفة توصل إلى علب أخرى بفتحات معاكسة، وأحيانا كان يضاف لها طبقة أو طبقات علوية.
الإحساس الممتع عند دخولك المتاهة يتحول بمرور الوقت لضيق وتبرم من الفشل فى الخروج، وهذا بالضبط ما يحدث عندنا تلقائيا، الأماكن المهمة والمستهدفة يتم تحويطها بمتاريس على أن هذا الإجراء أمر عارض، ثم يستبدلون المتاريس بجدران! وتدخل حى جاردن سيتى مثلا فتجد نفسك متورطا فى المتاهة، أو تركب مترو الأنفاق فى طريقك إلى دار «الأوبرا» وفى المحطة يقابلك الباب الصاج المجلفن المغلق كى يمنع دخولك حرم الأوبرا، رغم أنه مصمم من أجل هذا الغرض بالتحديد، ومن دخله من قبل لا ينسى فخامة مدخله وتميز ديكوراته، لكنهم أغلقوه مرة قبيل زيارة مهمة، ثم لم يفتحوه بعدها مطلقا. طب كان إيه لزمته من أساسه؟ وتخرج من متاهة هذه المحطة متجها نحو مقصدك، لتجد المداخل الستة للأوبرا مغلقة، علما بأن كل مدخل يبعد عن الثانى بأكثر من 100م، وتدور حولها حتى تجد الباب الوحيد المسموح بدخوله، وهو مخصص لدخول وخروج السيارات وتلزم مغامرة لاجتيازه سالما، وتسأل عن سبب هذا الحصار فيجيبونك بأن الأمن أوصى بذلك! بأى منطق يكون حرصنا على أمن المواطن بوضعه داخل متاهة!
وبما أنى بدأت المقال بجحا، فلا يصح عدم ذكر إحدى نوادره، وأطرفها فى رأيى عندما توفيت امرأته، وشاهده الناس سعيدًا، فسألوه عن السبب، فأجابهم لأنها المرة الأولى التى يتأكد فيها من المكان الذى ستذهب إليه، وكانت المعددة تعدد عليها وتقول: «سيذهبون بك إلى بيت لا فراش فيه ولا غطاء ولا خبز ولا ماء»، فقال له ابنه بجزع: احذر يا أبى إنهم سيعودون بها إلى بيتنا.