x

د. حازم الببلاوى يكتب: عن «الفشخرة» (1-2) «الباشوات» الجُدد يظهرون بعد إلغاء المَلَكية والوزير يصبح «دكتوراً» بمجرد توزيره

الخميس 01-10-2009 23:00 |

ازدادت مظاهر البذخ والإسراف فى الفترة الأخيرة، مما دعا رئيس الدولة إلى التحذير من مخاطر «الفشخرة» والمظاهر الكاذبة التى يلجأ إليها بعض رجال الأعمال وغيرهم من الأغنياء الجدد و«محدثى النعمة».

والحقيقة أن «الفشخرة» أو المفاخرة والادعاء بالتميز عن طريق الإنفاق على المظاهر الخارجية من قصور وحفلات وسيارات ويخوت وغيرها من مظاهر الاستهلاك والهوايات غير الشائعة، هى ظواهر اجتماعية حديثة نسبياً عرفتها معظم الدول، خاصة فى فترات الانتقال والتحول الاجتماعى، ونظراً للحداثة النسبية للظاهرة فقلَّ أن نجد لفظاً أو تعبيراً مستقراً ومتفقاً عليه للتعبير عنها فى معظم اللغات.

وقد عرفت الإنجليزية هذه الظاهرة منذ حوالى القرنين عند بداية الثورة الصناعية وبزوغ البورجوازية التجارية والصناعية، وأطلق عليها الروائى البريطانى ويليام ثاكرى Thackeray لفظاً جديداً هو Snob، وهو لفظ مشتق -فيما يبدو- من اللاتينية Sine Nobilitate، أى الشخص من غير طبقة النبلاء، فهو شخص وإن كان من غير النبلاء فإنه يتشبّه بهم ويتظاهر بالانتماء إليهم.

وسك ثاكرى لفظ Snob للتعبير عن ظاهرة «الفشخرة» أو التعالى من الطبقات الجديدة الطامعة فى الارتقاء الاجتماعى، بعد أن توافرت لديهم الثروة المالية، وأصبحت هذه الظاهرة أحد الموضوعات الأثيرة للكُتاب، ولعل أشهرها رواية موليير عن «البورجوازى النبيل»، Le Bourgeois Gentilhomme، فالسيد جوردان -وهو تاجر حقق ثروة مالية كبيرة- لا يكتفى بما حققه وإنما يريد أن يعامل معاملة النبلاء وأن يتصرف مثلهم.

وقد انتقلت هذه الظاهرة «الفشخرة» من إنجلترا إلى فرنسا -رغم ما بينهما من منافسة- ضمن ما عرف بولع الفرنسيين بكل ما هو إنجليزى Englomania خاصة بعد الثورة الفرنسية، وسوف نلاحظ أن أحد مظاهر «الفشخرة» فى معظم الدول هو محاولة تقليد الأجانب، فالطبقة الراقية فى فرنسا تقلد الأرستقراطية البريطانية،

وفى نفس الوقت فإن أغنياء الإنجليزية يتحدثون بالفرنسية، خاصة عندما يتعلق الأمر بقائمة الطعام، وكانت فرنسا- قبل الثورة- هى بلد الملكية المطلقة، كما كان بلاط لويس الرابع عشر هو قمة الشكلية فى مراسم الاستقبال وإجراءات البروتوكول، وكان ترتيب الأشراف والنبلاء معروفاً لا يسهل التحايل عليه،

ورغم ذلك، لم يخل الأمر من بعض المحاولات للغش و«الفشخرة» بالادعاء- كذباً- بالانتماء إلى طبقة النبلاء، فلم يكن من المقبول أن يستقبل الملك فى قصر فرساى أحداً من غير النبلاء فى حفلات الاستقبال التى كان يقيمها بشكل مستمر، ومع ذلك، فقد كان الملك يستقبل- أحياناً وعلى سبيل الاستثناء- بعض الأعيان من غير النبلاء مع منحهم لقب كونت «مؤقت» لغرض حضور الحفل فقط، وكثيراً ما كان يدّعى بعض هؤلاء أنهم نبلاء «أصليون» استناداً إلى بطاقة الدعوة، وهى أحوال استثنائية على كل حال، ولم تكن تخيل على أحد.

بدأت «الفشخرة» فى فرنسا على نحو واسع بعد الثورة وإلغاء الملكية والألقاب، حين قامت هوجة أو هوس لحمل الألقاب النبيلة- كذباً وادعاء فى معظم الأحوال- وبعد أن أعلن نابليون نفسه إمبراطوراً على فرنسا أعاد الألقاب للإمبراطورية الجديدة، وبعد سقوطه وعودة الملكية القديمة، عاد معظم النبلاء «القدامى» من المهجر ومعهم جمهور كبير من المدعين والمحتالين من أصحاب الألقاب الكاذبة، وأصبحت «الفشخرة» والادعاء بالانتماء إلى الارستقراطية القديمة أحد أهم اهتمامات الطبقة الثرية، خاصة خلال القرن التاسع عشر، وبدأت تجارة الألقاب القديمة أو الاستيلاء على الألقاب المهجورة وغير المستعملة،

ومن أشهر من استولوا على هذه الألقاب والد الرئيس الفرنسى الأسبق جيسكار ديستان، حيث دخل والده «آدموند» فى نزاعات قضائية طويلة للاستيلاء على أحد هذه الألقاب (دى ستان). وليس بعيداً عما تقدم ما حدث فى مصر بعد قيام الثورة وإلغاء الملكية والألقاب، حيث انتشر التعامل مع «البكوات» و«الباشوات» الجدد، فالكل «باشا»،

ولكل موقع «باشا كبير» إلى جوار معاونيه من «الباشوات الصغار»، ولم يتوقف الأمر على هذه الألقاب الاجتماعية، بل أصبحت الألقاب العلمية مالاً شائعاً، خاصة فى تعاملات منادى السيارات، فإذا لم تكن- فى نظره- «باشا»، فأنت غالباً «دكتور» أو «باشمهندس»، وبطبيعة الأحوال فإن جميع الوزراء يحصلون على «الدكتوراه» عند دخول الوزارة، كما تمتلئ صفحات الوفيات بأسماء عائلة المرحوم من الباشوات والبكوات والمديرين والمحافظين السابقين.

ولم تتوقف «الفشخرة» على محاولات حمل الألقاب النبيلة بل امتدت- تشبهاً بالإنجليز- إلى ظاهرة النوادى الخاصة، وهكذا تأسس فى فرنسا نادى الجوكى للفروسية ليضم أرقى العائلات، وكذا نوادى السيارات وغيرها من التجمعات المغلقة، ولم تتخلف مصر عن الركب، حيث سارعت هى الأخرى، متابعة للتقاليد البريطانية، فتأسس نادى محمد على ونادى السيارات وناديا الجزيرة وسبورتنج، وهكذا ولم تتميز الطبقة الجديدة فقط بالألقاب بل أصبحت لها مجتمعاتها الخاصة، واتسع الأمر لأماكن السياحة الشتوية والصيفية، بل أحياناً مناطق سكنية جديدة وراقية ومسوَّرة تفصل بين الطبقة الجديدة و«فشخرتها» وبين العامة.

ولكن بقدر ما تحب الطبقة الجديدة الخصوصية والانعزال عن «العوام»، فإنها مغرمة أيضاً بالدعاية والإعلان عن نشاطها، ومن هنا ظهرت المجلات التى تتحدث عن أخبار الطبقة العليا High Life، وهى تضم إلى جانب هؤلاء من أصحاب الثورات الجديدة نجوم الفن فى السينما والمسرح ومشاهير الأدباء، وربما العلماء أيضاً الذين يُدعون إلى حفلات هذه الطبقة كنوع من «الديكور» و«المباهاة». ونظراً لأن حفلات الزواج تتم بمعدلات بطيئة وغير منتظمة فجاءت حفلات أعياد الميلاد لتسد نقصاً خطيراً فى الحياة الاجتماعية للطبقة الجديدة، كذلك ساهمت الفضائح فى إضفاء مزيد من المذاق والإثارة على أخبار هذه الطبقة.

ومنذ الثلاثينيات من القرن الماضى أصبحت «الموضة» La mode فى الملابس وتسريحات الشعر أحد أهم مظاهر «الفشخرة» للطبقة الجديدة. وأصبحت صناعة «الموضة» إحدى أهم الصناعات العالمية، حيث تصدّر باريس أو نيويورك أو لندن أو ميلانو آخر صيحات الموضة للعام المقبل.

وهى لم تعد تقتصر على تحديد ملابس الصيف والشتاء، بل تتضمن أيضاً تحديد الألوان المطلوبة لكل عام، فضلاً عن أشكال الحقائب والأحذية وأنواع العطور، وكان الأغلب على الموضة أن تهتم بملابس النساء، فإذا بها تقتحم أيضاً عالم الرجال والشباب. وأصبح «موديلات» الموضة من فتيات وشباب هم نجوم المجتمع الجديد، بل دخلت إحدى هؤلاء «الموديلات» قصر الإليزيه لتسكن فيه زوجة للرئيس.

ولم تتوقف أشكال «الفشخرة» على المسكن والملبس والنوادى الخاصة والمصايف والمشاتى، بل إن هناك أشكالاً لـ«الفشخرة» الثقافية. ففكرة الطليعة Avant-garde لم تقتصر على تلك المظاهر المادية بل هناك «صراعات» ثقافية فى الفنون والآداب.

وكلما بعدت الشُّقة للفنون والآداب الجديدة عن المألوف واستحال فهمها على «العامة»، كان لهذه «الفشخرة الثقافية» سحر لدى الطبقات الجديدة.

فجاءت صراعات الرسم المجرد والرسم التكعيبى وغيرهما من أنواع الرسم غير المفهومة لتلقى إقبالاً كبيراً من «الأغنياء الجدد» للحصول عليها بأثمان خيالية، كذلك ظهرت صراعات جديدة فى الأدب والفلسفة والفكر مثل أدب اللامعقول أو الأدب العبثى والتعبير الرمزى والهيكلية والتفكيكية، وغير تلك من الأوصاف الغامضة للصراعات الأدبية الحديثة، وغير بعيد ذلك الموسيقى الحديثة، وإن كانت فى مصر قد أخذت منحىً غريباً ومختلفاً - ومتخلفاً أيضًا- من السوقية والابتذال فى الأغانى.

وجاءت العولمة فأضفت على هذه الفنون والآداب الجديدة مسحة عالمية، وعندما أعلنت وفاة مايكل جاكسون المغنى الأمريكى الأسود الذى أصبح أبيض البشرة بالعمليات الجراحية، جاءت وفاته كصدمة لملايين المعجبين على اتساع العالم، وكان جاكسون قد اشتهر بأغانيه إلى جانب سجل حافل بالفضائح والقضايا، واضطر إلى قضاء فترة من الوقت متخفيًا فى إحدى إمارات الخليج العربى، وهناك كذلك صراعات للمذاهب السياسية والفلسفية أيضًا،

فالوجودية أخذت حظها بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت الأحزاب اليسارية والثورية محل افتتان دائم من العديد من أبناء الطبقات الثرية بل أحيانًا الأرستقراطية، فالكونتيسة جرامون Gramon، وهى تحمل أحد أقدم وأعرق الألقاب النبيلة فى فرنسا، ويطلق عليها أيضًا كونتيسة الحمراء، شاركت فى مظاهرات «الجبهة الشعبية» للأحزاب الاشتراكية فى فرنسا فى منتصف الثلاثينيات من القرن الماضى، لكى تعود للمشاركة من جديد فى مظاهرات الطلبة فى باريس مايو 1968، وينبئنا التاريخ بأن الثورات وحركات التمرد قد استقطبت دائمًا أعدادًا من أبناء الطبقات الأرستقراطية والثرية،

فشواين لاى، رئيس حكومة الصين فى عهد ماوتسى تونج، ينحدر من أصول أرستقراطية، كما كان لينين نفسه يحمل جذورًا نبيلة، وكانت الأمريكية باتريشيا هيرست هى وريثة إحدى أغنى العائلات الأمريكية قد شاركت فى أعمال القتل والتخريب لإحدى الجماعات الثورية الأمريكية ثم دخلت السجن لتخرج منه وتتزوج زواجًا تقليديًا من أحد الأثرياء، بل لعلنا لا ننسى أن بن لادن نفسه هو أحد أبناء كبار الأثرياء فى المملكة السعودية.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية