x

ممدوح الدماطي ماعت: الحق.. العدل.. النظام ممدوح الدماطي السبت 28-03-2015 21:26


بينما يبحث العالم اليوم عن القيم الأخلاقية الممثلة للحق والعدل، يشهد تاريخ مصر لها بالسبق حين عملت منذ آلاف السنين بمقتضى «ماعت»، وهى مفهوم فلسفى أخلاقى يعنى الحق- العدل- النظام، وهى الدستور الذى نظم حركة الكون فى مصر القديمة، والقانون الذى رسم علاقة الملك بالشعب، والشعب بالملك. وهى أيضاً المبدأ الأخلاقى والمعنوى الذى كان على كل مصرى اتباعه فى جميع مراحل حياته اليومية، وعليه أن يعمل بمقتضاه لإقامة الحق والعدل والنظام أمام الله فى الأسرة والمجتمع والأمة والبيئة. وهى الدستور الذى شكله المصرى القديم كمبدأ لتلبية احتياجات الدولة المصرية، وسعى لوضعه لتجنب الفوضى، وأصبح أساس القانون المصرى. وأصبح الملك منذ نشأة الدولة المصرية يصف نفسه بأنه «نب ماعت» أى رب ماعت، وأن الذى يصدره من مراسيم ملكية يخرج مع فمه بماعت التى وقرت فى قلبه. وكان على الملك أن يثبت للآلهة المصرية أنه يحكم مصر بالماعت، أى بالحق والعدل والنظام، فنجده يبدأ جميع الطقوس الدينية، بما فيها طقوس الخدمة اليومية فى المعابد المصرية، بتقديم رمز ماعت (سيدة تعلو رأسها ريشة) قرباً لجميع الآلهة، وهى التقدمة التى تعنى إقرار الحق والعدل والنظام فى جميع مناحى الحياة، سواء كانت الدينية بعلاقة الملك بأربابه، أو الدنيوية ممثلة فى علاقة الملك بشعبه ورعيته. إذ إنها، وكما ذكرت النصوص المصرية، هى القوة الفاعلة التى يعيش منها وبها الآلهة والبشر معاً خاصة الملوك: «أنا أعظم ماعت التى يحبها (رع)، لأنى أعرف أنه يعيش بها، إنها أيضاً خبزى وأنا أشرب من نداها». وهذا يعكس الحال التى يكون عليها من يعيش وتغذى بالحق والعدل والنظام، فلا ربوبية للمعبودات بدونها، ولا ملك لملك إلا أن يحيى بها.

ولُقب أوزيريس بلقب رب العدالة وسيد قاعة ماعت، وهى قاعة المحكمة والحساب فى العالم الآخر، فكما ذُكر على العديد من البرديات، التى عُرفت ببرديات كتاب الموتى، ومنها بردية لشخص يدعى حو نفر من عصر الدولة الحديثة حوالى 1270 قبل الميلاد أى من حوالى 3270 سنة، والتى تظهر محاكمة حو نفر، بوزن قلبه، حيث يوضع قلب حو نفر فى إحدى كفتى الميزان أمام ريشة ماعت التى تمثل الحق والعدل فى كفة الميزان الأخرى، أى أن أعماله توزن بالقسطاس، وهنا يظهر توازن الكفتين، أى كفة قلب الميت مع كفة ريشة ماعت، وهو ما يعنى أن أعماله تتفق مع الحق والعدل ويُسمح له بالحياة فى الآخرة. وإذا كان قلب الميت لا يوافق ماعت «ريشة الحقيقة» فمعنى ذلك أن الميت كان آثماً عصياً فى حياته فى الدنيا، ويكون عقابه ألا يُسمح له بالحياة الآخرة، وأن يلقى بقلبه للملتهمة «عمعمت» المنتظرة بجانب الميزان، وهى حيوان خرافى، والتى حرف من اسمها الكلمة العامية «هم هم» التى نقولها اليوم بمعنى التهم، فنقول للطفل: «كل الأكل هم هم»، وبالطبع بعد أن تلتهم عمعمت قلب المذنب فى الدنيا تكون هذه هى نهايته الأبدية.

أما الأخيار والصالحون فيلقبون بلقب «ماع خرو» أى صادق الصوت، وكلمة ماع هى من ماعت، واللقب ماع خرو يلحق دائما باسم المتوفى، وتعنى فى لغتنا الحالية فلان المرحوم أو فلان المبرأ، ومعناها الحرفى فلان صادق الصوت، ولا يصدق صوت الإنسان إلا إذا كان صالحاً فى الدنيا، فصدق صوته بقول الحق وإشاعة العدل، لذا كان يلزم على المتوفى أن يبرئ نفسه أمام الأرباب بأنه لم يقترف إثماً أمام الآلهة أو فى معبدهم، أو أساء بفعله تجاه المجتمع والناس، فكما تردد فى النصوص المصرية: «لقد أعطيت الخبز للجياع والماء للعطشان والملابس للعريان»، و«أنا كنت راعيا للأرملة وكالوالد لليتيم». أى أنه أقام ماعت على الأرض.

وكذلك الملوك كانوا حريصين دائماً على إقامة ماعت على الأرض، وضموها أسماء تتويجهم لتكون جزءا من كينوناتهم يفعلون بها أمام الأرباب ويظهرون بها أمام الشعب، فعلى سبيل المثال عُرف لقب تتويج الملك إمنمحات الثالث من الأسرة الثانية عشرة بلقب «نى ماعت رع» بمعنى المنتمى لعدالة رع، وعُرف الملك أمنحوتب الثالث من الأسرة الثامنة عشرة بلقب «نب ماعت رع» أى سيد عدالة رع، وعُرف الملك سيتى الأول من الأسرة التاسعة عشرة بلقب «من ماعت رع» أى مثبت عدالة رع، وكان الملك إخناتون أكثر من ربط اسمه بماعت وكان يُكنى نفسه «عنخ إم ماعت» بمعنى العائش فى ماعت.

وكانت أهمية ماعت أن المصرى القديم اعتبرها ممثلة للنظام الكونى فى جميع جوانب الوجود، بما فى ذلك التوازن الأساسى للكون، والعلاقة بين الأجزاء المكونة له، ودورة الفصول، والحركات السماوية، والملاحظات الدينية والتعامل العادل، والأمانة والصدق فى جميع مناحى الحياة الاجتماعية، وأن أى خلل فى أحد مظاهرها هو بمثابة خلل ودمار للكون كله، وبذلك اعتنقها كجزء من عقيدته التى يعمل بمقتضاها. ولذلك جسد ماعت كربّة للحق والعدل والنظام فى صورة امرأة تعلو رأسها ريشة نعامة، وكما قدمها الملك قرباً للأرباب، جسدت فى ذاتها كإلهة تُقدم لها القرابين بجوار المعبودات الأخرى فى المعابد المصرية إعلاءً لشأنها.

* وزير الآثار

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية