لم يكن ليتصور أن تتسبب أحد أبحاثه المنشورة فى مجلة علمية مرموقة فى كل هذا اللغط، فالرجل الثلاثيني الذى يعمل فى مجال الفيزياء النظرية يعلم تمامًا أن لا مكان للعلوم الأساسية فى وطنه العربي، فشعوب المنطقة ليست شغوفه بما يُقدمه، مبتعدة تمام البُعد عن ما يمت للمجال بصلة، والصحافة المرئية والمسموعة والمقرؤه ليست شغوفة بنقل وتحرير المواد العلمية الرصينة، فقط؛ هي تبحث، في مجال العلوم، عن ما هو مثير وطريف، لذا؛ وحسبما قال، أثارت النقاشات حول موضوع ورقته البحثية الخاصة بتوليد الثقوب السوداء الصغيرة عظيم دهشته، إلا أن الرياح لم تأت بما يشتهى الدكتور «أحمد فرج علي»، فعوضًا عن التنوية عن بحثه وفريقه بالطرق السليمة والمعلومات الدقيقة، فضلت الصُحف والمواقع الإليكترونية نقل «الشُبهات» دون تمحيص، وعرض مجموعة من «الخيالات» بصورة أخرجت موضوع الورقة البحثية عن سياقها.
عبر استخدام تقنية «سكايب»، قامت المصري اليوم بمناقشة «أحمد فرج علي» الحاصل على الدكتوراة فى الفيزياء النظرية من جامعة «ليثبريدج» الكندية، والذي يعمل حاليًا كأستاذ مساعد زائر بجامعة «فلوريدا» الأمريكية، والذي أثير اللغط حول أحد أبحاثه التى قال الإعلام عنها إنها ستتسبب فى فناء الكون، فكان لنا معه هذا الحوار:
حصلت على البكالوريوس من كلية العلوم جامعة «بنها» عام 2003، عملت كمدرس بالجامعة عدة سنوات، ثم حصلت على الدكتوراة من جامعة «ليثبريدج» بكندا، فدبلومة الطاقى العالية من المركز الدولى للفيزياء النظرية بإيطاليا، وأعمل الآن كأستاذ مساعد زائر بجامعة ولاية فلوريدا بالولايات المتحدة الأمريكية.
تناول الإعلام الخاطئ لمحتوى الورقة البحثية هو ما سبب هذا الضجة غير المعتادة بالنسبة للأبحاث المتُخصصة.
الصحيح هو ما يُخبرنا به العلم، في حالة الورقة البحثية التى نشرتها مع أثنين من زملائى، نحن نتحدث عن احتمالية خلق ثقوب سوداء عند مستوى طاقات مُعين باستخدم نظريات موثقة ومُعترف بها.
نُشرت فى مجلة Physics Letter B وهى واحدة من أكبر وأهم المجلات العلمية، والتى تُملك معامل تأثير 6.1، أى أن العلماء يستخدمون الورقات المنشورة فيها كمرجع.
من مايو 2014 حتى مارس 2015.
الحقيقة إن الصحف الغربية احتفت بموضوع الورقة البحثية، إلا أن صحيفة إنجليزية نشرت تقارير تحتوى على أخطاء كارثية فى موضوع الورقة البحثية، نقلت عنها الصحف العربية، وبعضها أضاف «التاتش»، لتُصبح فى النهاية الورقة مثار للسخرية، واتهمتنى الصحافة بمحاولة تدمير الكون، رغم أن الجسيمات التى ستولد داخل المُصادم الهيدرونى الكبير ستتلاشي في وقت صغير للغاية، استأت بشدة من الأمر وحاولت توضيحه بشتى الوسائل.
كما قلت، نشرنا الورقة البحثية فى مارس الجارى، واستقبلت تعليقات ايجابيه من بروفيسور «ماجيوجو» الاستاذ بامبريال كولج، إلا أن العلماء يحتاجون لوقت إضافي للأطلاع عليها وكتابة التعليقات.
بالتأكيد، نشرت أكثر من 30 بحثًا فى المجلات العلمية المتخصصة، تم استخدامها جميعًا كمرجع أكثر من 620 مرة
لمعرفة المحتوى، يجب أن نشرح الخلفية العلمية التى استندت عليها تلك الورقة، في مجال الفيزياء النظرية، يوجد أربعة قوى مختلفة؛ القوى النووية الضعيفة، والقوى النووية القوية، والقوى الكهرومغناطيسية وقوة الجاذبية، وهناك اعتقاد بين الفيزيائيين إن بتوحيد تلك القوى الأربعة سيتم كتابة فيزياء جديدة، إلا أن هناك عددًا من المشكلات المتعلقة بكيفية توحيد تلك القوى، فقد نجح العلماء جزئيًا في ذلك، عن طريق صياغة النموذج القياسي لتوحيد الثلاث قوى الأولى، غير أنهم فشلوا في ضم قوة الجاذبية إلى ذلك النموذج بسبب مشكلة «التدرج».
توحيد القوى يبدأ نظريًا باستخدام طاقة مساوية لحوالى 10 مرفوعة للأس 2 جيجا إليكترون فولت –وحدة قياس الطاقة- وبقيت المشكلة في قوى الجاذبية التى ستوحد نظريًا عند 10 مرفوعة للأس 19 جيجا الكترون فولت، وهى فجوة كبيرة صنعت مشكلة التدرج، فالفرق الضخم صنع إشكالية وقف أمامها علماء الفيزياء عاجزين حتى تمكن العلماء من إيجاد صياغة تُعرف بنظرية الأبعاد الزائدة.
قام فريق من العلماء بقيادة كلاً من أستاذ الفيزياء النظرية بجامعة بريستون «نيما أركانيا حامد» ونظيره «دى موبلس» بجامعة ستانفورد والعالم «ديفالي» بجامعة نيويورك، باقتراح وجود أبعاد زائدة عند الوصول إلى طاقة عالية فى المسافات الصغيرة، فالأبعاد المعروفة هي الطول والعرض والارتفاع والزمن، إلا إن تلك النظرية تقول إن هناك عددًا أخر من الأبعاد يزيد كلما زادت الطاقة، ذلك الاقتراح تمكن من حل مشكلة التدرج، فبدلاً من أن تكون قوى الجاذبية عند 10 مرفوعة للأس 19، ففي حالة وجود تلك الأبعاد تكون قوة الجاذبية عند 10 مرفوعة للأس 3 جيجا إليكترون فولت، وبالتالى يمكن فهم مفهوم الجاذبية عند تلك الطاقة القريبة من الطاقة اللازمة لباقى القوى وأيضًا فهمها فى إطار فيزياء الكم، هذة النظرية يمكنها اعطاء نسق توحيدي للقوى الفيزيائية الأربعة «النووية الضعيفة والنووية القوية والجاذبية والكهرومغناطيسية».
وبالتالى، فإن الظواهر التى كانت ستظهر عن 10 مرفوعة للأس 19، يمكن أن تظهر الآن، طبقًا للنظرية، فى مستوى 10 مرفوعة للأس 3، ولذا، وبحسب النظرية؛ يمكن توليد ما يُعرف بالثقوب السوداء الصغيرة، وهذا يمكن عمله فى المصادم الهيدرونى الكبير.
حتى الآن لم يتمكن العلماء من ذلك، فمنذ عام 2011، حاول الباحثون رؤية الثقوب السوداء الصغيرة، وتم إجراء ثلاث تجارب داخل المُصادم الهيدرونى الكبير الموجود فى معامل وكالة الأبحاث النووية الأوربية «سيرن»، وتم رفع الطاقة حتى وصلت إلى نحو 5 تيرا الكترون فولت، غير أن الفشل كان حليف العلماء، ومن هنا؛ جاءت فكرة وجود خطأ ما فى نظرية الأبعاد الزائدة، الأمر الذى دفعنى وفريقي لكتابة الورقة البحثية التى صنعت ذلك اللغط.
هناك مثال قد يُساعد على الفهم.. تخيل أنك ترى أنبوب صغير من مسافة بعيدة، كيف ستراه؟ مجرد شريط مُسطح ذو بُعد واحد، لو تخيلنا وجود «نملة» على تلك الأنبوبة، تلك النملة سترى ذلك الأنبوب بشكل مُختلف، سترى السطح الكروى له، وطوله وعرضه، ورغم وجود أبعاد الأسطوانة فى الحقيقة، إلا أنك لم تستطع إدراكها بسبب بُعد المسافة، إذا اقترابنا سنرى الأبعاد الحقيقية لها، هنا يمكن القول إن الطريق «لرؤية» الأبعاد الإضافية هو «الطاقة»، إذا تمكنا من الوصول إلى كمية الطاقة المناسبة، سنستطيع رؤية أبعاد زائدة، حسبما تنص النظرية، إلى الآن؛ لا يوجد أى تصور عن كينونة تلك الأبعاد، فقط مجموعة من التخيلات الموضوعة عن طريق المعادلات النظرية، يجب الوصول إليها أولاً لوضع وصف لها.
لقد حاولنا حل مشكلة عدم ظهور الثقوب السوداء الصغيرة عند الطاقات التى اقترحتها نظرية الأبعاد الزائدة، وذلك عن طريق دمج تلك النظرية بنظرية أخرى تُدعى نظرية «قوس قزح» -إحدى نتائج الجاذبية الكمية- وعمل تنبؤ بالطاقة اللازمة لتوليد تلك الثقوب، والتى اتضح أنها يجب أن لا تقل عن 10 مرفوعة للأس 11 الكترون فولت، وهى الطاقة التى لم يصل إليها المُصادم الهيدرونى الكبير.
سيبدأ تشغيل المُصادم الهيدرونى الكبير قريبًا لإثبات عدد من الفرضيات العلمية مثل التماثلية الفائقة وبعض الفرضيات التى لم تُثبت بشكل تجريبى حتى الآن، من ضمنها؛ ما جاء فى الورقة البحثية التى نشرتها بالتعاون من البروفيسيور "مير فيصل" أستاذ الفيزياء بجامعة «ووترلو» الكندية والطالب «محمد خليل» من جامعة الأسكندرية، وسيعمل المُصادم الهيدرونى الكبير بطاقة ستصل إلي 14 تيرا الكترون فولت ، وهى الطاقة الكافية؛ حسب البحث، لظهور الثقوب السوداء الصغيرة.
بالطبع، نحن كنظريين نملك العديد من التنبؤات بخصوص ما سيأتى في التجربة، إذا تم إثبات ما جاء فى النظريات، سيُكتب تاريخ جديد للفيزياء.
ربما بعد عدة شهور أو سنة من البدء في العمل داخل المُصادم ، المعلومات الناتجة عن التجربة تحتاج إلى وقت طويل لتحليلها.
للأسف لا، حين تمكن الاتحاد السوفيتى من غزو الفضاء قبل الولايات المتحدة، صدر قرارً من الحكومة الأمريكية بإعادة النظر فى طُرق تدريس العلوم الأساسية، إعادة النظر جعلت أمريكا الآن أكبر دولة في إنتاج الأبحاث العلمية في ذلك الفرع من العلوم، يمكن قياس مستوى رُقى وتقدم الأمم بمستويات تعليم الطلاب لعلوم الفيزياء والكيمياء والرياضيات، في مصر، الوضع مُختلف، فتقدير دراسة العلوم الأساسية يأتى فى أقل مستوياته، فما بالك بنشر الأبحاث والتعليق عليها!
حتى الآن، يدرس الطلاب فيزياء الكم التى ظهرت فى عشرينيات القرن الماضى، لم تواكب المناهج التطور الحادث في نظريات الفيزياء، مثل نظرية الكم النسبية والمجال الكمى والنموذج القياسي والأوتار الفائقة على سبيل المثال، الكوادر الموجودة لتدريس تلك النظريات يكاد لا يبلغ الخمسين شخص فى مصر كلها، يجب إعداد كوادر جديدة وإيفادهم لتعلم النظريات الحديثة.
لا، قدمت بنفسي لعمل دبلومة الطاقة العاليه والدكتوراة فى الخارج، تكلفة الدبلومة تحملها المركز الدولي للفيزياء النظرية بتريستا وجامعة ليثبريدج تحملت مصاريف الدكتوراة.
نعم، فلقد نشرت مؤخرًا بحثًا بالتعاون مع العالم «سوريا داس» من جامعة ليثبيرج بكندا، حول الأنفجار العظيم الذى قيل إنه تسبب في بدء الكون، جاء فيه حلاً لمشكلة التفرد، واقترحت أن الكون أزلى بلا بداية ولا نهاية، وتم إلقاء الضوء على البحث في عدد من وسائل الإعلام الأوربية من بينها قناة «ديسكفري» فخرج أحد علماء الدين السعوديين واتهمنى بـ«الإلحاد» وكفرنى بسبب رأيي العلمى، العديد تعاطف معه وبدء في سبي رغم عدم معرفتهم بمبادئ العلوم الأساسية، وصلتنى رسائل تندد بما وصفوه اعتدائي على الدين
لا شيء، فقط تعجبت، فلا وجه للربط بين العلم والدين، فالمنهج العلمى مبنى على الشكوك أما الدين فهو اعتقاد راسخ لا شك فيه.
في عام 2011، كشف المصادم الهيدرونى عن بوزن «هيجز» الذى كان اقترحه عالم الفيزياء «بيتر هيجز» في ورقة بحثية نشرها في ستينيات القرن الماضي، الأمر الذي أهله للحصول على نوبل عام 2013، فهل تتوقع الحصول على الجائزة في يوم من الأيام؟
«ضاحكًا» لا.. لا أتوقع.
قلت سابقًا، الأمم يُقاس تقدمها بالعلوم الأساسية، نوبل العلوم تُعطى فى الفيزياء والكيمياء والدواء، في عالمنا العربي تدريس العلوم يقع فى المرتبة الأخيرة، لذا؛ لن نحصل على نوبل حتى ننهض بقواعدنا العلمية.
العلماء المصريون يحققون إنجازات تلو الأخرى في الخارج «البلد مليانه خير وخرجت ناس عقولها كبيرة، يستحقوا يتعرفوا ويُشار إليهم في بلدهم، اتمنى مصر تعرف تستفيد منهم».