أضواء النيون الباردة تمتد في الممر الطويل، وأنا أهرول بخطوات مسرعة خلف التروللي، توقفت الممرضة ونظرت نحوي مستفسرة: هل تحب أن تلقي عليها نظرة؟، وكشفت الغطاء عن وجهها الأبيض الناعم، كان ورديا يميل إلى الاحمرار، وعيناها مسبلتان وعلى شفتيها نفس الابتسامة التي تعودنا عليها سواء كانت نائمة أو مستيقظة، وخصلة من شعرها الأسود الحريري تنام على الخد بجوار الأذن.
نظرة واحدة ظلت محفورة في وجداني 11 عاما منذ رحلت أمي فجأة، كأنها تحقق أمنية طالما رددتها في دعائها.. أن تموت دون ألم، دون مرض، دون أن ترهق أحدا، أو تنتظر شيئا من أحد، السيدة التي عاشت تتعب من أجل الكل، لم تكن تريد أن تشعر بالعجز، وظلت تدعو الله أن تذهب إلى السماء واقفة على قدميها.
كانت أختى الصغيرة الأحن والأطيب تبكي مثل طفلة صغيرة أمام غرفة العمليات، دموعها تنساب بلا نحيب ولا صوت للبكاء، شعرت بإحساس متناقض كتمته في نفسي حتى الأن، أحزنني حال أختي وتألمت لدموعها بشدة، بينما شعرت بارتياح غامض تجاه أمي، استقر داخلي إحساس عجيب أنها أكثر راحة، وأكثر صفاء، والأهم أن الله استجاب لدعائها وحقق أمنيتها!
تصورت لفترة أنني قاسي القلب، أو أناني، أو مسكون ببعض الشر، كيف لا يحزن الإبن المدلل لفراق أعظم وأقوى سند له في الحياة؟
خرجت من المستشفى ومشيت بمحاذاة النيل، لا أتذكر فيما كنت أفكر، كان وجهها يملأ عيني، فلا أكاد أرى شيئا امامي غيره، ولا أعرف كيف وصلت إلى البيت وأنا في هذه الحال، لم أحضر الجنازة، ولم أذهب إلى سرادق العزاء، كنت (ومازلت) انتظرها لتعود في أي لحظة، فالوجه الذي رأيته آخر مرة لم ينبئني بالغياب، كانت تغفو قليلا لتستيقظ عندما تسمع وقع خطواتي.
تأخرت أمي هناك، وارتبكت كل أحوالي ومشاعري، فقد طال غياب السيدة التي تضبط حياتي كلها، لم أتعود أن أفعل شيئا بنفسي.. لم أتعود أن أفعل شيئا لنفسي، ظللت طفلا حتى تجاوزت الأربعين، وعندما استكانت للراحة في مقامها الكريم شعرت باليتم لأول مرة في حياتي.. تدهورت كل أحوالي، وفقدت الحياة قيمتها، فالنجاح بلا معنى إذا لم أراه في عينيها، الضحكة صارت مؤجلة لنضحكها معا، الأحلام التي كنا نحكي عنها صارت كوابيسا، فأنا أخشى أن تتحقق في غيابها.
في مثل هذا اليوم قبل 40 عاما سهرت حتى الصباح في غرفتي العلوية أفكر في الهدية التي يجب أن أحضرها في الغد، بشرط أن تكون أجمل من كل الهدايا التي يقدمها أفراد العائلة، ولما أصابتني الحيرة، قضيت الليل أكتب قصيدة من الشعر أعبر فيها عن حيرتي، واختتمتها ببيت أقول فيه:
«أي الأشياء أهدي إليكِ/ والجنة تحت قدميكِ»
وفي الصباح صعدت إلى الغرفة لتوقظني، وبينما هي ترتب الفوضى، وتلم الكتب والأوراق على المكتب، عثرت على القصيدة، واحتفظت بها في دولابها الأسطوري، وعاهدتني ألا اشتري لها أية هدايا في عيد الأم بعد ذلك، فهذه القصيدة هي هديتها الدائمة وإلى الأبد.
عودي يا أمي، فأنا حزين بدونك، أبكي مثل الأطفال كلما شعرت بالوحدة، وابحث عن شئ يأخذني من حزني فلا أجد إلا صوتك، وصورتك، وحكاياتنا الهامسة في الليل والعالم كله نائم.
أنا حزين يا أمي
أنا أبكي..
أبكي.
يا أمي:
عودي.
أو خذيني يا أمي.
لا أستطيع البقاء هنا بدون حنانك وحمايتك
لا أستطيع يا أمي
لا أستطيع
..
.
جمال الجمل