جلس ملك الجن وسط الحاشية وقد بدا على وجهه الحزن. قال قائد الحرس وهو يتلو تقريرا: «فاض نهر التنهدات بالأمس بعد أن ملأته دموع البشر وأمانيهم التى لم تتحقق. من سوء الحظ أننا متصلون بهم ولا يوجد فاصل بيننا».
تدخّل حكيم الجن قائلا: «عالم الجن يبدأ حيث ينتهى عالم البشر. وعالم البشر يبدأ حيث ينتهى عالم الجن! الشمس كروية، وكذلك الأرض والقمر. فلماذا تصبح عوالمنا استثناء من الشكل الكروى؟».
استطرد قائد الحرس: «برغم السدود التى أقامها الجن لحماية أرضهم من نهر التنهدات فقد فاضت دموعهم وتهدمت السدود. وتسبب الدمع المالح فى إتلاف المزروعات وبور الأراضى. واضطررنا لتهجير المنكوبين إلى أراضٍ مرتفعة».
تدخلت الأميرة، بنت ملك الجان، المراهقة التى لم يزِد عمرها عن مائة عام: «ألن يكف البشر عن تعاستهم ويتوقفوا عن سكب الدموع؟».
قال حكيم الجن: «كنا كبنى الإنسان نمارس حياتنا الهمجية، حتى صحت نية أجدادنا على التراحم والمساواة فطُرحت البركة فى حياتنا وأصبحنا نتمنى الشىء فنجده ماثلا أمام عيوننا، وصرنا على ما نحن عليه من التقدم والعدل».
قالت الأميرة: «طالما لا يفصل بيننا وبين المراد إلا التمنى، فلماذا لا نحقق للبشر أحلامهم ونخفف أحزانهم؟».
أربد وجه حكيم الجن قائلا: «لم يحدث أننا تدخلنا يوما فى عالم البشر إلا وحدث بعدها شر مستطير».
قالت الأميرة المراهقة وكأنها تحلم: «فكر فى السعادة التى سنهبها للتعساء المساكين!» ثم بلهجة عملية: «وفكر أيضا أن نهر التنهدات سيجف طالما حققنا أمانيهم».
وساد الصمت فى الديوان الملكى، وقال ملك الجن بصوت قوى: «حققوا للبشر جميع الأمنيات».
■ ■ ■
مساء المدينة. حين عادت جموع الكادحين إلى بيوتهم ارتفعت صيحات الفرح من جميع البيوت: «ذهب! مجوهرات! أموال كثيرة. ذهب الفقر إلى غير رجعة».
لكن فى الصباح التالى لم تُفتح المتاجر. أغلقت محلات الجزارة والعطارة والحبوب. الفقراء الذين لم يعودوا فقراء امتنعوا عن الذهاب لأعمالهم. ارتفعت صيحات السخط. كيف سنأكل؟ من سيقوم بالأعمال الوضيعة؟
قال حكيم الجن: «لا حل يا مولاى إلا بإفقار البعض ليحتاجوا إلى القوت الضرورى للقيام بأعمالهم».
قال ملك الجن فى حزم: «لقد بدأنا اللعبة ويجب أن نتمها حتى النهاية. دعوهم يفرحوا بالذهب حتى يقرصهم الجوع».
الذهب صار يملأ الطرقات حتى زهده الجميع. أما القمح فنادر. أصبحت العملة الجديدة هى الخبز. فاض نهر التنهدات من جديد.
قالت الأميرة المراهقة فى تردد: «فلنتمنّ لهم كثيرا من القمح يكفى الجميع».
وفى الحال اخضرّت السنابل فى جميع الحقول. لكن بقيت المشكلة: من يقوم بجمع السنابل وطحن الحبوب؟ من يخبز العيش ويوقد الفرن؟ قال الملك فى سخط: «لم يعُد لنا من عمل سوى التمنى لهؤلاء الكسالى».
أغمضت الأميرة عينيها وتمنت. وبالفعل وجد البشر الخبز الساخن والطعام الشهى فى البيوت. جاء قائد الحرس ركضا وهو يصرخ: «فاض نهر التنهدات من جديد».
قالت الأميرة فى حيرة: «ما أعجب هذا! أتعسهم الغنى مثلما أتعسهم الحرمان». قال حكيم الجن فى ثقة: «لا يصلح الإنسان إلا شىء ينقصه ويسعى من أجل أن يناله».
قال ملك الجن: «أتعب البشر الجميع. اتركوهم وحالهم. لا شأن لنا بهم. وليفِض نهر التنهدات كما يريد».