العلاقة بين الدولة المصرية وحماس مُعقّدة، والخفي فيها، سلبًا وإيجابًا، أكثر من المعلن بكثير.
بل ربما (يصح الذهاب) إلى أن مصر، عمقًا ما من أعمقة أجهزتها وقرارها الاستراتيجي، تدعم حماس في ناحية ما بقوة، بينما تحتقرها من نواح أخرى بقوة لا تقل عن قوة الدعم.
وبالمثل، تثق حماس في أن مصر ظهيرها الأهم، وتثق في أن الأزمة حين تصل لذروتها لن ينجدها غير «الدولة المصرية»..(...).
غير أن هناك عدة تباديل وتوافيق تجتاح المشهد من آن لآخر.
فإذا صدّرت حماس وجهها البارد، صفعته مصر بيد خشنة غليظة، وإذا صدّرت وجهها الرومانسي ترفّقت مصر.
أيًا كان موقفك من حماس، وأيًا كانت درجة التشوش أو الحسم فيه، دعني أقتسم معك هذه الحقيقة الظريفة.. كلا الطرفين لن يفترقا، لا بأمر محكمة ولا سواه، بل ستستمر علاقتهما مُشَوَّشَة في مُطلقها، واضحة المعالم في تفاصيل دقيقة، وستستمر الدولة المصرية في احتقار حماس، لكن شيئًا ما غضًّا في قلبها لم يزل (صدق أو لا تصدق!) سيدفعها للتعامل معها ومع غيرها، لأجل الشعب الفلسطيني.. ثم في اعتبار أكبر، لأجل الأمن القومي المصري نفسه.
(2)
المقطع أعلاه جزء من مقالي المنشور في المصري اليوم بتاريخ 5 مارس 2014 (أي منذ سنة)، حول الجدل الذي يكتنف العلاقة بين مصر وتنظيم حماس، حين رُفع إلى محكمة الأمور المستعجلة النظر في دعوى قضائية لحظر أنشطة حماس في مصر، بوصفها حركة إرهابية.
واليوم مع طعن هيئة قضايا الدولة على حكم محكمة الأمور المستعجلة باعتبار حماس حركة إرهابية، ينبغي وضع بعض الأمور في نصابها.
فحماس لم تعد هي الكيان المقاوم للاحتلال الصهيوني فحسب. أضحى لدينا اليوم حماس المنقسمة على ذاتها، ما بين أفعال المقاومة وما بين الوقوف على تخوم الإرهاب، مالم يكن الخوض فيه، تحريضًا أو ممارسةً.
لقد جرت مياهٌ كثيرةٌ في النهر.
هناك حماس المقاومة وحماس الإرهابية، والمساحة الرمادية بين الدورين والممارستين، مشوشة (بالكسر والفتح)، ومتداخلة.
فلم تعد حماس هي حماس التي كنا ننفطر لأجلها وهي تقاوم المحتل الصهيوني في حرب غزة 2008- 2009. لقد تحولت إلى حجر دومينو ضمن لعبة كبيرة، يتجاذب أطرافها التنظيم الدولي للإخوان وقطر وتركيا وما اتسعت له اللعبة أن تستضيفه. زالت البراءة «النسبية»، وتجردت الفكرة من رومانسيتها، وتحولت حماس إلى شعبة مختلة من شُعب سيرك الإخوان في مصر.
ووفقا لثرثرات أمنية هنا وهناك، فإن حماس متورطةٌ فعلا، في تدبير قلاقل واضطرابات داخل الحدود المصرية، غير أن مصر لا تريد تصعيد الأمور لأقصى مدى ممكن، لاعتبارات بعيدة ومتداخلة.
وفي شهادة مرسي (السفيهة في صياغتها ومنطقها)، أثناء حديثه مع قاضيه في قضية التخابر، دليل كاف على ما ورطت حماس فيه نفسها. فقد قال المعزول: «القضية فيها أن رئيس الجمهورية وجماعة الإخوان المسلمين قاموا بالتآمر والتخابر مع حركة حماس.. وهذا شرف عظيم».
بشهادة مرسي، مبتعث حركة الإخوان وضواحيها وملحقاتها في الرئاسة، فإن ممثل الإخوان في الحكم، «تخابر» مع حماس، أي سرب إليهم معلومات من صلب الدولة المصرية (الله أعلم بكنهها) واعتبر أن ذلك شرف عظيم، وبالمثل اعتبرت حماس.
حماس التي استغلت مرسي، وتسللت إلى خزانة الأمن القومي المصري، هي ذاتها حماس التي تحوم حولها شبهات كثيرة حول ما يجري في سيناء، ولو لم تصح الشبهات كلها على عواهنها، فبعضها يحمل علامات استفهام بحاجة إلى «تجلية» حاسمة.
فإذا كان الإخوان هنا متفرغين للحرق والتفجير.. فكيف الحال بحماس؟.. هكذا يطرح السؤال نفسه بلا مواربة.
أي نعم هناك حماقات إعلامية وأمنية تلصق بحماس ما لا يصح نسبه إليه بداهةً.
لكن حتى حماس، الإصدار المقاوم منها، منقسم على ذاته بين محور خالد مشعل ومحور محمود الزهار.. والأخير كان يجري إخضاع محوره للتقويض، لتنحية المواجهة المسلحة مع إسرائيل ولتأمين تل أبيب لفترة ما في إطار اتفاق تهدئة ترعاه واشنطن بالاتفاق مع الإخوان (أثناء حكم مصر) وبالتنسيق مع خالد مشعل.
حماس حركة مقاومة.. وحماس متورطة في أعمال إرهابية، كلتاهما سويًا بما تستبعه كل واحدة وما توجبه.. تعاطفًا وكراهيةً.
ومصر لا تغفل كلتيهما، توظف أولاهما لصالح مصلحتها الآنية والبعيدة، وتتعامل مع ثانيتهما بطرق مختلفة وبخطابات متفاوتة القسوة واللين.
وربما أوثق القول هنا: مصر لن تحسم ميلا تامًا لأحد الخيارين أبدًا.. وستذر حماس كـ«المعلقة».