مستديرة على أربع أرجل، وواطئة وقريبة من الأرض، تتحلق حولها الأسرة فى عدالة كاملة والجميع على الأرض وتمتد أيديهم بعد البسملة فى سعادة وحب للطعام المقدم بألوانه وأشكاله، بداية من الطعام الدسم فى البرام الفخارى الذى تشكشك داخله البامية أو الأرز المعمر بالحمام، أو الفخار الأكبر المعروف بالقصرية حيث اللبن الرايب الذى يتصاعد فى طبقات من الحامض السائل إلى الرايب المتماسك لنصل إلى السطح حيث طبقة من القشدة الرائعة، وعلى طبلية أخرى ستجد قطع الجبن القديمة الحمراء الصلبة الغارقة فى المش الجميل الخارج من جرة حفظته لشهور طويلة كما اعتادت البيوت فى الجنوب من عصر الفراعنة إلى الآن، وطبق الجبن القديم محاطا بالبصل الأخضر الذى يقضم مع الجبن فتكتمل الروعة، أو طبلية أخرى تراص فوقها المطبق الساخن وهو نوع من أنواع الفطائر السميكة المعجونة بالسمن البلدى، وقد تسرح عينك نحو طبق الويكا فتتحرك يدك بعشق إليه ومنه إلى فمك والكل فى سعادة ونهم، سواء من حملت طبليته الشلولو وهو الملوخية الناشفة الملقاة فى الماء البارد ومعصور عليها الليمون أو ذلك الذى اكتفى فى الصباح بقطعة روانى وهو أقرب لدى القاهريين لمفهوم الكيك وإصبعين من الفايش يغطسان فى كوب الشاى باللبن، بينما يفضل البعض طبق (المفتلة) وهى نوع من أنواع العجائن المفتولة فتلا فى شكل حبات صغيرة كالأرز وغارقة فى اللبن، أما البيوت التى رزقت بمولود فينصح للام أن تتناول (العصيدة) الساخنة أو تقضم قطعة من السرسوب وهى أقرب إلى الجبن الأبيض، وطرية مثلها ومصنوعة من لبن السرسوب وهو اللبن الأول الذى تدره الجاموسة من ضرعها إلى ابنها الوليد فيكون دسما وغنيا وقد اختزنت فيه كل الفوائد الصحية والحنان معا.. وعلى الطبالى البسيطة ستجد (البتاو) بديلا عن العيش الشمسى، لذيذا بنوعيه سواء المصنوع من الذرة الرفيعة أو من (القيضى) وهو الذرة الشامية ويحلو مع الجبن الأخضر المعروف شمالا باصطلاح الجبن القريش..
وفى البيوت العادية ستجد من يفضل من الأطفال (الكسكسى) على المفتلة وهى نفس الشكل لكنها تحمر فى السمن البلدى وتصير ذهبية أكثر ويغرقها السكر فتصير شهية وكأنها من طعام الجن… لم أتذوق فى القاهرة تلك الأطعمة وباعدت بينى وبينها المسافات لكن الطعم الجميل يسكن الذكريات ويجعل لها نكهة خاصة فأنتبه بكل حواسى عند رؤية القطار ولو على الشاشة فأتذكر (المخروطة) وهى العجينة التى تفردها النشابة الخشبية ثم تخرط خرطا بالسكين إلى شرائح ليتحول العجين إلى طبقة جميلة تشبه البسبوسة لكنها متداخلة بشرائحها وخيوطها كالكنافة، غارقة فى (الشروب) وهو ماء محلى بالعسل والسكر المعقود ومغطاة بالسمن بالبلدى، ساخنة تسافر من سوهاج إلى القاهرة، واشتهر بعملها نساء معدودات فى الصعيد ومنهن السيدة لبيبة الأخميمية، من سافرت مخروطتها إلى بيوت الوزراء والمحافظين ونجوم السينما فى السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضى وصارت مخروطتها رمزا من رموز الجنوب، علت السفرة على الطبلية واستطالت ففقدنا السطح الدائرى العادل والدنو من الأرض ورفعتنا الكراسى وباعدت بين أيدينا وبين الأطباق المسافات وأكلنا ما لا نشتهى، وأظهرت القاهرة وأطعمتها الجاهزة فى حياتنا مخاطر سماها الأطباء بالسكر والسمنة والكولسترول فزاد الحرمان وتعاظمت الذكريات، وتنوعت المحطات فى الرحلة واستبدلنا الشمعة باللمبة الجاز ذات الخمس شمعات قوة وطاقة ومنها إلى اللمبة ذات العشر شمعات ومنها إلى الكلوبات ومنها إلى اللمبات واللمبات والموفرة والنجف والأباجورات، ونسينا ضوء النجوم الذى رافقنا على سطوح بيوتنا واستبدلنا بالجوابات المطولة المليئة بالأشواق والسلامات التلغراف والتلكس والفاكس ومنها إلى الإيميلات والماسدجات، وصار العزاء على الفيس بوك والأفراح وأعياد الميلاد مجرد صورة لتورتة على صفحة الغاليين والأحباب، واتسعت الحضارة وضاقت النفوس وما زالت لمتنا فى الذاكرة لا يجمعها سوى الطبلية..