اشتريت جهاز mp3 player لتشغيل الموسيقى في السيارة، وفي اليوم التالي تعطل تمامًا، عدت إلى المحل غاضبًا ومستنفرًا لخناقة مع البائع، لكنه قابلني بابتسامة ودودة، ووضع أمامي كرتونة الأجهزة وهو يقول: «اختر ما يعجبك، ولو حصل أي مشكلة رجعه وخد غيره!».
تعجبت جدًا لهذه المعاملة الراقية، وشعرت بالامتنان للبائع الذي يقبل التغيير بسهولة، بل ويشجعك عليه، لذلك حرصت على أن أجامله، فسألته عن موبايل بسعر معقول، رد الرجل بأريحية: عندي تابلت رائع بسعر ممتاز، وأخذ يستعرض إمكانياته، ثم كرر نفس العرض لآي فون تحفة سعره يقل عن ألف جنيه.
سألته: إيه الفرق بينه وبين أبو 5 آلاف جنيه؟
قال بعفوية: عشان صيني، لكن في الحقيقة مفيش فرق، كلهم كويسين وبيقضوا الغرض، سيبك من الماركات والأسماء، الأداء واحد.
تذكرت تصريح المهندس إبراهيم محلب عن الوزراء الذين خرجوا في التعديل الوزاري الأخير: كلهم ناس أفاضل على أعلى مستوى.. أخلصوا للبلد، واجتهدوا ليل نهار.
طيب لماذا يتم تغييرهم إذن؟
يجيب رئيس الوزراء: من أجل الدفع بعناصر ودماء جديدة.
عظيم، يعني مفيش تقصير ولا حاجة الحمد لله، فالتغيير مجرد فرصة لتداول المسؤولية، عشان الشعب كله ياخد فرصته بالدور (لغاية آخر واحد في الكرتونة) ويحكم نفسه بنفسه!
لم يتحدث محلب كرئيس وزراء لديه خطة ومستهدفات ومعايير لقياس أداء حكومته، لكنه تحدث مثل بائع البضاعة الصيني، فهو يعرف عيوبها منذ البداية، لذلك فإن أدبه لا ينبع من ثقة في البضاعة التي يعرضها، لكن من إدراكه العميق أنها معيبة، لذلك تكون رخيصة ويسهل تغييرها بلا مقاوحة أو دفاع، فالتقصير موجود ودائم، وما على المسؤول إلا أن يتحمّل نصيبه، وعندما يشكو الناس من التقصير لا نعالج العيب ولا نغير الحال، بل نمد أيدينا في الكرتونة ونغير المسؤول، ويظل الحال كما هو.
لم يقل لنا محلب، إن وزير السياحة هشام زعزوع مثلاً أعلن استقالته عمليًا منذ شهور، ليتفرغ للإشراف على تنفيذ استراتيجية السياحة العربية التي أقرها وزراء السياحة في إطار جامعة الدول العربية، وأنه تسلم فعلًا مهامه، وفضّل عدم الاستقالة انتظارًا لخروجه بشكل طبيعي مع استقالة الحكومة كلها عقب انتخاب البرلمان، ولما تأجلت الانتخابات البرلمانية كان لابد من «ترميم» الحكومة، لكي تتمكن من مواصلة مهمتها بلا برلمان.
عملية الترميم لم تكن بالطبع تقتصر على حالة زعزوع، لكنها أيضا لا يمكن أن تتسع لتشمل كل الوزراء المُقصّرين في الحكومة، وفي مقدمتهم وزير الداخلية محمد إبراهيم، لأن إبراهيم لم يكن مجرد وزير داخلية، لكنه كان شريكًا أساسيًا في ترتيبات 30 يونيو، وبالتالي فإن الإطاحة به تحتاج إلى «إخراج فني» لا يسبب له جرحًا ولا حرجًا، وقد تم الترتيب لهذا الإخراج على مدى شهرين، وتم تحديد نهاية فبراير لإجراء تعديل وزاري طفيف (لم يكن يشمل وزير الداخلية) لضبط أداء الوزارات الخدمية المرتبطة بالحياة اليومية للمواطن، واستبدال وزراء الأزمات، مثل الثقافة، والنقل، والتعليم، والكهرباء، والصحة، لتخفيف حالة الاحتقان الشعبي ورفع درجة التجانس بين المسؤولين عقب حركة تغيير المحافظين، والتي كان مقررًا لها شهر يناير، على أن تستمر الحكومة ببقية تشكيلها إلى ما بعد الانتخابات البرلمانية، لكن التأجيل وضع الحكومة في موقف صعب، فلم يعد الشارع يحتمل استمرار وزير الداخلية بكل هذا الحجم من القمع والإهمال، كما أن ارتفاع الأسعار وتدهور الأحوال المعيشية يتطلبان حيلة لامتصاص غضب الناس عن طريق تغيير بعض وزراء المجموعة الاقتصادية (باستثناء وزير التموين)، وهذا أمر يصعب تحقيقه في فترة التحضير للمؤتمر الاقتصادي.
تداولت السلطة في الخيارات المطروحة أمامها، وكلها خيارات صعبة، وانتهى التشاور إلى ما يمكن تسميته «التغيير بالتقسيط»، وكان لابد من حل أكبر مشكلتين في هذا التغيير، أولاهما أن أي تغيير لا يتضمن وزير الداخلية لن يحقق أي أثر إيجابي في الشارع، وثانيتهما خطورة تغيير أي من وزراء المجموعة الاقتصادية حتى تنتهي أعمال المؤتمر الاقتصادي، رغم وجود ملاحظات على أداء هذه الوزارات، خاصة المالية والاستثمار.
من السذاجة طبعًا تصديق أن المهندس محلب هو صاحب القرار في تغيير وزير الداخلية، فهذا أمر سيادي له حسابات معقدة، خاصة أن مشكلة الوزير تضخمت وسحبت من رصيد النظام كله، بل أساءت إلى هيئة الشرطة نفسها وأعادت صورتها السلبية إلى ما قبل 25 يناير، خاصة بعد جريمة مقتل شيماء الصباغ، ثم مقتل المحامي كريم حمدي جراء التعذيب داخل قسم شرطة، ثم تفجير قنبلة دار القضاء العالي، وأخيرًا حريق قاعة المؤتمرات، هكذا لم يعد بإمكان أي مسؤول الدفاع عن القمع الأمني باعتباره وسيلة اضطرارية لحماية المجتمع من الإرهاب، فالقمع صار مجانًا، نظرًا لتزايد الإهمال وتكرار التفجيرات حتى في المواقع الاستراتيجية التي تخضع لحراسة مشددة، لهذا تم وضع اللواء محمد إبراهيم ضمن أسماء الدفعة الأولى، وتم استرضاؤه بمنصب استشاري يرفع عنه بعض الحرج، ويحفظ له بعض التقدير لتحمّله مخاطرة الإطاحة بنظام الإخوان وما تلاه من أحداث جسام تحمّلت الشرطة فيها الكثير من العبء والدم.
لكن هل تغيير إبراهيم يعني أن سياسة الشرطة قد تغيرت، وأن اللواء عبد الغفار سيأتي ومعه عقيدة أمنية جديدة؟
لا أعتقد، فالضرورات هي الجنرال الفاشي الذي يبيح كل شيء، ويملي على السلطة الكثير من القرارات، فالموقف معقد، والخيوط متشابكة، ولا أحد يضمن الأداء الجيد طالما البضاعة كلها صيني!
«اختر ما يعجبك، ولو حصل أي مشكلة رجعه وخد غيره.. مفيش فرق، كلهم ناس أفاضل وبيقضوا الغرض، سيبك من الماركات والأسماء، الأداء واحد».