ما هي الجملة التي تحتفظ بها في ذاكرتك من مجمل خطابات مبارك على مدار 30 سنة من الحكم؟ هل تتذكر أي شيء؟ أي خطبة؟ أي جملة؟
(الإخوة والأخوات/محدودي الدخل/ السلام الشامل العادل/البنية التحتية/ لتحقيق الاستقرار/ الأعباء الاقتصادية/ تحديد النسل/ حق الشعب الفلسطيني المشروع)
هذا «كوكيتل» منتقى من الكلمات الأكثر تكرارًا على مدار مئات الخطابات البليدة التي ألقاها الرجل قبل أن يغادر الحكم غير مأسوف عليه.
لم يُحفظ عنه قول واحد مأثور، ولا جملة مميزة بحال من الأحوال، ولا خطاب كامل أرسى ملمحًا أو اجتثّ فكرةً (عدا خطابه العاطفي قبل الإطاحة به) في ظاهرة تدعو للدراسة.
فكيف يمكن أن تخطب 30 عامًا دون أن تترك شيئًا خالدًا في وجدان أحد؟
الأزمة تنسحب على السيسي، بصورة أو بأخرى.
فبحواره الأخير مع قناة العربية، قبيل زيارته للمملكة العربية السعودية، يتأكد جليًا فقر القاموس السياسي واللغوي للرجل.
(30 يونيو/ الدول العربية التي قدمت دعمًا/ مصر/ الجيش/ إحنا/ البلد/ استحملوا/ المؤتمر الاقتصادي/ الإرهاب/ خلوا بالكم/ هقول الكلام ده يمكن لأول مرة/ هكون صريح/ السعودية/ الإمارات/ الكويت/ تنسيق عربي).
ربما كانت الكلمات الأكثر تكرارًا في أحاديث السيسي مواتية ومتسقة مع المحاور والأفكار التي شكلت الفترة الماضية وتؤثر في الوضع الحالي، بأكثر مما سواها.
غير أن الأمر يتخطى الاستعانة بالألفاظ نفسها، والأفكار عينها، ليصل بنا أن الرئيس يقول على مدار عامين (منذ الإطاحة بالإخوان) الكلام ذاته، في ظاهرة داعية للتوقف.
بالطبع إذا قيس كلام السيسي بروائع الدكتور محمد مرسي (القرد والقرداتي مثلًا لا حصرًا) فإننا قد قفزنا قفزة نوعية هائلة، لكن ليس على مثل هذا التردي تُقاس الأمور.
جاء السيسي لسدة الحكم بلا برنامج انتخابي معلن، وقَبِلَ منتخبوه به رئيسًا على هذا الحال، لكن أحدًا لا يستوعب أن ندور مع الرجل في دوائر مفرغة. فنحن ندرك أكثر مما سوانا أن الإخوان أشرار وأن الأشقاء العرب دعمونا.. حسنًا، ثم ماذا بعد؟
وحتى في ظهوره في خطابه المباشر للشعب قبل أقل من أسبوعين، لم يقل شيئًا جديدًا، لكنه قد بدا أن هناك محاولات جدية لإظهار الرجل في هيئة رئيس لدولة حقيقية مستقرة. وفي رأيي، نجحت الخطة إلى مدى بعيد من حيث الأداء والتنفيذ والفلسفة والمبدأ، لكن المضمون ذاته لم يتغير.
مجرد تنويعات في ترتيب الكلمات، تعكس إعادة ترتيب لنفس الأفكار.
ليس مطلوبًا من رئيس الجمهورية أن يتحول لخطيب مُفَوّه، يخلب لُبّ الجماهير بكلمات ساحرة وجمل بلاغية تداعب وجدان المتلقي، ليس مطلوبًا منه أن يطلق كلمات رائعة تصلح للاقتباس وللتدوين في ذاكرة التاريخ، لكن ليس من المعقول ألا يقول الرجل شيئًا جديدًا.
يتخطى الأمر الآن شخص عبدالفتاح السيسي، لصالح إطلالة مصر ككل، حين يتحدث رئيسها.
ربما كنا أسرى الاختيار بين ثنائيات متطرفة في الآونة الأخيرة، وربما كان الوضع برمته خاضعًا لاستقطاب لا يرحم، لكن لا يعقل أن يصبح الرجل بشخصه وحكمه أسيرين بدورهما في النزاع الدائر، دون مسافة فاصلة تظهره على أنه «رئيس» يفكر ويخطط ويتعامل، لا كطرف متورط ومنغمس بشخصه بأكثر مما هو متورط بصفته.
لا شك أن خطاب أي نظام سياسي يكشف أفكاره ويعكس رؤيته لنفسه وللآخرين من حوله، والأزمة في الخطاب الحالي أنه على نحو ما «ركيك» و«مكرر». لا هو الذي كان عمليًا واضحًا مباشرًا، ولا هو الذي كان عاطفيًا إنسانيًا وجدانيًا.
ومن ناحية أخرى، للأمانة، ربما كان التكرار قرين ارتباك مفهوم لرجل تسلم مقاليد حكم في وضع مضطرب وفي ظرف حرج ويعاند إحداثيات قاسية، وفي صدره السيف وفي الظهر الجدار.
غير أن أنظمة الحكم تقاس عافيتها وصحتها بقدرتها على التصرف تحت الضغوط وبالتعامل مع الأزمات وبمراقبة الذات وبالمصارحة معها.
ومن جانبه، يؤكد السيسي دومًا على حسن نواياه، غير أن الشواهد تجافي حُسن النوايا المعلن أحيانًا. وفي ملف الشباب المحبوسين تحديدًا مثالٌ جلي.
وفي حين يرفع البعض عن السيسي تحمّل عبء مثل هذه «المصادفات»، واتهامها بالاصطناع المضاد لإحراج الرجل من داخل دوائر داخلية تسعى لعرقلته، فإنه يتحمل ـ بمقاييس الاستجابة الذكية وسرعة رد الفعل ـ وزر عدم الرد على الشبهات وعدم التعامل معها كما يليق، إذا كان مخلصًا في نواياه حقًا.
ربما من القسوة أن نمد خطًا واحدًا من خطابات مبارك البليدة على مدار 30 عامًا، إلى خطابات السيسي على مدار أقل من سنة منذ توليه مقاليد الرئاسة، غير أن الرجل مطالبٌ بأن يكون قاسيًا على نفسه، قبل أن تقسو عليه قواعد اللعبة، وقبل أن تضع المشابهات والمقارنات حكمه أمام حكم المخلوع.
وعليه أن يكون صريحًا مع نفسه ومع شعبه، فهل لديه جديدٌ يقال؟ وهل لديه خططٌ بديلة؟
أرجو أن تكون الإجابة بالإيجاب.. فليس في القلب محتملٌ لانهزام جديد لهذا الوطن.