لم تكن الحرب نزهة فى يوم من الأيام. ولم يكن محاربو الماضى أكثر نبلاً من محاربى اليوم، فقد عرفت الحروب كل أشكال الترويع، كل أشكال الإبادة الجماعية، كل أشكال الخيانة بما فيها ذبح وسطاء السلام.
وكان الترويع ينتقل فى حروب الماضى فى شكل أخبار يحملها الفارون من الموت أو الجواسيس الذين يسبقون الجيوش لإيقاع الهزيمة بالخصم قبل أن تبدأ الحرب، وبعد اختراع الفوتوغرافيا صارت اللقطة الثابتة وسيلة للأخبار والتوثيق. ومع حرب الخليج الثانية فى مطلع التسعينيات بدأ عصر الحرب المتلفزة، أى عصر الصورة المتحركة التى تنقل المعركة لحظة بلحظة بهدف الإبهار وترويع الخصم.
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار علاقة النسب المتميزة والحب اللدود بين الولايات المتحدة الأمريكية والإرهاب الإسلامى، نستطيع فهم ولع الصورة الذى أصاب داعش «النسخة الأحدث من الإرهاب» رغم أن صناعة الصورة ظلت حكراً على الشريك المنظم والمتفوق «أمريكا» حتى إن صور العمل الإرهابى الأضخم والأكثر رمزية فى 11 سبتمبر 2001 جاءت من الجانب الأمريكى. خطط الإرهابيون للاعتداء باحترافية وذكاء شديدين من أجل الانتقام، وتركوا مهمة التصوير للأمريكيين، واتضح أن رغبة الولايات المتحدة فى نشر الرعب من الإرهاب كانت أكبر من رغبة الإرهابيين، وضمنت بهذه الصور تأييداً كاسحاً وتجديداً لشرعيتها، بل لشرعية الرأسمالية.
ولا يعنى هذا أن الأجيال الأقدم من الإرهابيين لم تستخدم تكنولوجيا الترويع قبل داعش، لكنها فى الأغلب كانت رسائل صوتية أو مصورة لزعماء القاعدة، وهم يتهددون حليفهم الاستراتيجى أو أى عدو وصديق آخر.
داعش، على العكس من ذلك، تبدو صناعة الصورة هدفاً أصيلاً فى عمله منذ البداية، لكنه فى العملين الأبشع الأخيرين (حرق الطيار الأردنى وذبح 21 مصرياً فى ليبيا) لم يقتصر على استخدام تقنيات التصوير ببراعة لتصوير المشهد، بل تعدى ذلك إلى إعداد المسرح، أى انتقاء العناصر التى ينبغى أن تظهر والتى ينبغى أن تغيب، لكى تقول الصورة بالضبط ما يريد الدواعش قوله.
معروف أن زاوية التقاط الصورة تضخم عنصراً على حساب عنصر آخر، لكن من الواضح كذلك أن من يتقدمون لتنفيذ الإعدام فى رهينة يتم اختيارهم طبقاً لطول القامة، كما أن التنفيذ فى فضاء مفتوح وليس داخل سجن يستهدف تأكيد سيطرة داعش على المكان دون منازع، بالإضافة إلى أن ذهاب الضحايا إلى الموت بتسليم وطاعة يوحى كذلك بتفوق داعش، بل ربما بإقرار الضحية بأنه مذنب.
لماذا يمضى المقتول إلى حتفه دون مقاومة مادام سيموت فى كل الأحوال؟ سؤال تبادر إلى أذهان الكثيرين، خصوصاً بعد واقعة إعدام جماعة وليس فرداً واحداً. والتفسير الذى قيل على حالة المصريين أنهم خرجوا فى بروفات عديدة، وفى كل مرة يأملون ألا يتم التنفيذ، لكن الواضح أن الضحايا يكونون فى حالة تخدير. والمفارقة أن داعش التى تهتم بتقنيات الصورة ومحتواها تعود بالفعل الواقعى إلى حالة البربرية الأولى، فالسكين والسيف فى مواجهة الكاميرا الرقمية، أى القائد هولاكو فى مواجهة سبيلبرج المخرج.
ومن هذا التضاد يأتى عدم الانسجام الذى يجعل من داعش كاريكاتيراً وتمثيلاً هزلياً للإرهاب الوسطى (!!) عندما كانت رسالة الصورة على نفس المستوى التقنى مع الفعل.
وبهذه المبالغة فى البشاعة يقدم داعش للإنسانية خدمة جليلة، إذ يقلل من بريق الإرهاب فى عيون المأزومين، لكن انتهاء الإرهاب يحتاج إلى صدق نوايا من يواجهونه.