لا توقظوا الضحية، لئلا تصرخ
من يوقظها.. من المسؤول؟
ريح تهب فجأة، فتنعش الموتى.
من أين تهب؟
من كل الجهات.. من الوطن.
من علمهم هذه اللفظة المهجورة؟
شعراء يغنون على ربابة.
اقتلوهم؟
قتلناهم، فابتكروا لفظو أخرى «الحرية».
من علمهم هذه اللفظة العاصية؟
ثوار
اقتلوهم؟
قتلناهم، فتعلموا كلمة أخرى «العدالة».
من علمهم هذه اللفظة؟
الظلم.. هل نفتل الظلم؟
إذا قضيتم على الظلم، قضيتم على أنفسكم.
ما العمل؟
نفتل الذاكرة.
وهكذا ينام العالم.. وهكذا يصحو.
هو مدجج بالسلاح وأنا مدجج بالقيود.
من «يوميات الحزن العادي»
محمود درويش
**********
لماذا يكره الطغاة والغزاة والهمج التاريخ؟ لماذا يتفنون في تخريبه ومحو آثاره؟
حين دخل هولاكو بجيش المغول الوحشي بغداد عاصمة الدولة العباسية عام 1258، كانت درة المدائن في ذلك الحين، لكنهم أرادوها عبرة للعالمين، لم يكتفوا بذبح الخليفة وسكان المدينة، ولكنهم حرصوا على تدمير أعظم مكتبة في تاريخ الإنسانية وقتذاك، مكتبة بغداد المعروفة باسم بيت الحكمة التي كانت تحتوي على عدد غير محدود من الوثائق والكتب التاريخية النفيسة في جميع مجالات العلم والمعرفة، ويقال أن نهر دجلة اسود من الحبر بسبب الكميات الهائلة من الكتب المرمية به.
مابين هجمة المغول وغزوة الأمريكيين قرون وعصور من التحضر والرقي، ولكن النتائج لم تختلف كثيرا، ثاني نكبات العراق كانت مع الغزو الأمريكي عام 2003، حيث قتل الآلاف من العراقيين، وتعرض ما يقارب من 15 ألف موقع أثري للسرقة والنهب والتدمير، بالإضافة إلى تعرض المتحف العراقي الوطني في بغداد إلى أكبر عملية سرقة آثار في التاريخ. كان في المتحف ما يقارب 220 ألف قطعة أثرية، سرق منها 15 ألفا ودمر ما صعب حمله، ولم يعد منها سوى 4000 قطعة فقط وما تبقى مجهول المصير حتى اللحظة، ومن ضمن ماسرق من المتحف السجلات التي توثق مواصفات القطع وتاريخها وأسمائها، وبفقدانها تضيع إمكانية حصر ومعرفة ماهيتها، فيصبح من الصعب المطالبة بها، القوات الأمريكية الجاهلة بالتاريخ كانت تتمركز بآلاتها الضخمة في المناطق الأثرية لايعنيها أن تسحق في طريق الذهاب والعودة ذكريات تعود إلى ماقبل التاريخ، حين لم يكن أحد يعرف عن القارة الأمريكية شيئا، ولم يكن لها في تاريخ الحضارة الإنسانية ذكرى.
ثم جاءت النكبة الثالثة على يد الدواعش، الذين ينهبون ماتبقى من آثار العراق وكنوزه ويبيعوه مثل النفط، وهاهم مؤخرا يدخلون متحف الموصل ويدمرون آثاره ومن بينها تماثيل تعود إلى الحقبة الآشورية، ويحرقون آلاف الكتب والمخطوطات والوثائق النادرة الموجودة بمكتبة الموصل وبينها مؤلفات نادرة.
آثار العراق المنهوبة تباع في المزادات في لندن وإسرائيل وغيرها من المدن والعواصم، ذاكرة أمة تباع في صالات المزادات مقابل حفنة من الدولارات والمجتمع الدولي يقف عاجزا عن الفعل، وتكتفي اليونسكو كغيرها من منظمات الأمم المتحدة بالتنديد والشجب والإعراب عن القلق!
الغزاة والطغاة عبر التاريخ يريدون دوما طمس هوية الشعوب، يريدون أن يقطعوا الخيوط التي تربط الناس بماضيهم، يريدون شعوبًا بلاذكريات.. شعب بلاذاكرة أو تاريخ سهل عليك أن تشكله كما تريد وتقنعه بما تفعل، فالتاريخ يمثل هويتك والذاكرة ليست دليلك إلى الماضي بل هي التي تحدد خطواتك نحو المستقبل.
للأسف فالغزاة والطغاة لايتعظوا من التاريخ ولايعرفوا أنهم زائلون وذاهبون بلاذكرى طيبة.. ومن يبقى هم أصحاب الأرض فهي تاريخهم الحقيقي.. هنا عاشوا.. وهنا عانوا.. وهنا ماتوا أو قتلوا.. هنا مايسمى بالوطن.. كلمة لن تكون يوما لفظة مهجورة.