ربما ماكان يهدد مشروع محمد على بإحداث نقلة حضارية معاصرة في مصر هو التناحر على الحكم والسلطة بينه وبين المماليك مما أرهق كاهل مصر وشغلها عن تحقيق هذه النقلة ونجد أنفسنا إزاء مقولة أن التاريخ يعيد نفسه وبخاصة مع الدول العربية فما كان من محمد على باشا أن تخلص من خصومه وأطاح بهم في مذبحة مروعة ودموية استأصل فيها كل مراكز القوي التي كانت تهدد عرشه وأيضا استقرار البلاد لينطلق في مشروعه العملاق الذي المتكامل على جمميع الأصعدة سواء العسكري أو التعليمي أو الصحي أو الزراعي والتصنيعي.
وكان محمد على باشا بعد عودته من الصعيد وفى أوائل ١٨١١ أخذ يعد جيشا لمحاربة الوهابيين، تنفيذا لأوامر العثمانيين وجعل على رأسه ابنه أحمد طوسون باشا وأعد مهرجانًا فخمًا بالقلعة، وحدد له يوم الجمعة «زي النهارده» في أول مارس ١٨١١ للاحتفال بتكليف ابنه بالقيادة، ودعا رجال الدولة وأعيانها وكبار موظفيها ليشهدوا الاحتفال ودعا الأمراء والبكوات المماليك وأتباعهم للحضور فاعتبروها علامة رضا من الباشا ولبوا الدعوة.
ودخل البكوات المماليك على الباشا في قاعة الاستقبال الكبرى فاستقبلهم بالبشر والحفاوة، وقدم لهم القهوة وشكرهم لحضورهم ولما سيناله ابنه من تكريم إذا ما ساروا في موكبه وتحرك الموكب وفى نهايته المماليك مجتازًا الممر الوعر المؤدي لباب العزب وما إن مر آخر واحد في موكب طوسون حتى ارتج الباب وأغلق وظل المماليك بداخل الممر ومن ورائهم الأرناؤود الذين تحولوا عن الطريق وتسللوا الصخور على جانبى الممر، ولم ينتبه المماليك أن الباب أغلق واستمروا يتقدمون وتلاصقت صفوفهم المتلاحقة حتى دخلوا في بعضهم البعض، وفوجئوا بالرصاص ينهال عليهم من كل جانب وهم محصورون في الممر الضيق الغائر.
واستمر القتل من الضحى حتى بداية الليل حتى امتلأ فناء القلعة والممر بالجثث وهناك شاهدان أساسيان تحدثا عن مذبحة القلعة، الأول هو الإيطالى ماندريتشي طبيب محمد على باشا، والآخر هو أمين بك المملوك الناجي الوحيد.
أما الأول فكان بصحبة الباشا في قاعة الحكم في ذلك اليوم ووصف ذلك اليوم بقوله: «كان الباشا جالسًا في قاعة الاستقبال، وقد ظل هادئًا إلى أن تحرك الموكب فساوره القلق والاضطراب، وساد صمت عميق، إلى أن سمع صوت أول رصاصة، فوقف وامتقع لونه، وظل صامتًا، إلى أن حصد الموت معظم المماليك» فدخل ماندريتشى على الباشا وقال له: «لقد قضى الأمر واليوم يوم سعد لسموكم» فلم يجب الباشا وطلب كوب ماء فشربه جرعة واحدة.
أما الشاهد الثانى أمين بك، الذي كان في آخر صفوف المماليك، فما أن سمع طلقات النار تنهال من كل جانب حتى صعد بجواده إلى المكان المشرف على الطريق، وبلغ سور القلعة، فلما رأى الموت محيطًا به من كل جانب لم يجد مفرًا من أن يقفز بجواده من أعلى السور، فلما شارف الجواد على الوصول إلى الأرض قفز من فوقه وهرب باتجاه الصحراء، إلى أن وصل لسوريا.