ربما منذ الحقبة النازية لم تمتزج الأفكار الأيديولوجية الإبادية بمحاولات الإبهار والابتكار الفنى كما يحدث الآن مع ظاهرة «الدولة الإسلامية»، بل فى بعض أوجه التماثل والتنافر بين طبيعة فن النازى وداعش تكمن بعض إشارات عمق المأزق المعنوى والأخلاقى الذى يعيشه «جمهور» داعش «المسلم».
فى سنة 1935 صدر فى ألمانيا فيلم له أهمية مركزية فى تاريخ السينما الوثائقية، وذلك تحت عنوان «انتصار الإرادة». يصور الفيلم مؤتمر الحزب النازى فى مدينة نورمبرج عام 1934، والذى حضره ما يقرب من مليون مؤيد للنازية.. وتضمن الفيلم ابتكارات تقنية مهمة- مثل الكاميرات المتحركة والمحمولة جوا واللقطات البانورامية الطويلة... إلخ- أبهرت مشاهد الثلاثينيات، ومازالت لافتة للنظر حتى الآن.
لا يحتوى «انتصار الإرادة» على أى تعليقات مسموعة، فقط العبارات التالية، المكتوبة على الشاشة فى بداية العرض: بعد «20 عاما بعد اندلاع الحرب العالمية، 16 عاما بعد بداية المعاناة الألمانية، 19 شهرا بعد بداية إعادة البعث الألمانى، طار أدولف هتلر مرة أخرى إلى نورمبرج».
بالطبع فإن لغة القومية المتطرفة والفاشية ومفرداتها صارت معروفة لدينا فى العالم العربى منذ حين، من أول ما وعينا على أحزاب إعادة «البعث» القومية فى سوريا والعراق، والتى كانت من المفروض أن تعيد أمجاد الحضارة العربية فى أزهى عصورها، وحتى وصلنا إلى داعش التى تريد إعادة بعث الخلافة الإسلامية بعد عصور المعاناة والهوان.
لذلك، إذا أرادت «داعش» صناعة فيلم من نوع «انتصار الإرادة» يمكن أن تستعين بما سبق دون تغيير كبير: بعد «... عام منذ انهيار الخلافة،... عام من المعاناة والحرب ضد الإسلام،... عام من المعاناة الإسلامية، 19 شهرا منذ بداية إعادة البعث الإسلامية، هبط الخليفة إبراهيم (أبوبكر البغدادى) مرة أخرى على دابق».
ستلاحظ النقاط مكان بعض الأرقام، ذلك لأنه ليس من الواضح متى تبدأ «الحرب ضد الإسلام» وأين أو كيف تنتهى فى نظر هؤلاء (وما إذا كانوا يعترفون بالخلافة العثمانية).. هذا هو الفرق الأول بينهم وبين النازى، أما الفرق الثانى فسيكون التكنولوجيا المستخدمة، فستكون مصنوعة خارج «الدولة الإسلامية»، على عكس بلد صناعى كألمانيا الثلاثينيات.
بل كانت ألمانيا قوة ثقافية وحضارية جبارة وعلى أرفع مستوى. وهنا الفرق الثالث والأهم، لأن له تداعيات أخلاقية، حتى فى أحلك الحقب.. يحتوى فيلم «انتصار الإرادة» على مشاهد عدة تعبر عن استعراض للقوة، وتؤكد أهمية الوحدة القومية والنقاء العرقى والرجوع للأصول فى مواجهة التحدى... إلخ، هذه عناصر فكرية أدت ربما حتميا للمرحلة الإبادية فى تاريخ النازى، لكن الفيلم لا يشير من قريب أو بعيد إلى أى عنف فعلى، رغم أن العنف الفائق كان موجودا فى ذلك الحين بالطبع، فقبل تصوير الفيلم بقليل مثلا حدثت مذبحة «ليلة السكاكين الطويلة»، التى تخلص خلالها هتلر من بعض منافسيه داخل تنظيم حزبه.
بل على مدى حكم النازى بأكمله لم تستعرض شاشات النظام مناظر لقتل العدو عن قرب أو لمذابح اليهود والمثليين والغجر وغيرهم. على العكس، لقد حاول النظام على قدر الإمكان بسط الكتمان على الفظائع، حتى تظل مجرد شائعات أو أقل فى نظر معظم الألمان.. فذلك مثلا كان ضمن أسباب بناء معسكرات الإبادة بعيدا عن ألمانيا وفى شرق أوروبا، لأن النظام النازى كان يعرف أن المعرفة بحجم المذابح المرتكبة سيؤدى إلى نقص فى شعبيته بين الألمان، وربما حتى للمعارضة الفعالة.
رسالة الإبادة المستترة كانت موجودة فى الدعاية النازية، وكانت أحيانا تجذب نفس نوعية الناس التى تجذبها فيديوهات داعش الدموية، لكن على عكس النازى فإن قيادة داعش تعتقد، (أحيانا على صواب للأسف)، أن مناظر العنف الذى لا يعرف قيودا أخلاقية هى التى ستساعد على جلب الجموع للانضمام لصفوفها.
لقد تساءل الكثيرون عن إمكانية صعود النازية بجرائمها البشعة فى بلد مثل ألمانيا. بلد الأديب جوتة والشاعر شيلر والموسيقار بيتهوفن وفيلسوف المعرفة والأخلاقيات كانط، وعلماء مثل بلانك وأينشتاين... إلخ، وسخر البعض من مقولات أمثال المايسترو «فورتفانغلر»- الذى قاد أوركسترا برلين خلال الحقبة النازية- عن أنه كان يقاوم جرائم النازى عن طريق الحفاظ على الثقافة وإحياء الحضارة، رغم توظيف النازى لهما. لكن يبدو فعلا أن هذا التراث الحضارى وتداعياته الأخلاقية هما اللذان منعا النازى من التباهى بالمذابح أمام شعب لم يمت داخله الحس الأخلاقى بالكامل.
المايسترو العظيم كان على حق.. فعندما نجد أشباه الفاشيين فى عالم العرب المعاصر يتباهون بطقوس الذبح، التى توثق الروابط بينهم وتدعم صفوفهم فيما يبدو، نبدأ تقدير مدى المأزق الحضارى المصاحب.