سلفيا النقادى _ تكتب:
«هذا هو أول مقال أقدم فيه نفسى لقراء المصرى اليوم»، والمتابع لكتاباتى من قبل سيدرك على الفور كيف تدرج أو قُل تحول فكرى وأسلوبى من إنسانة إيجابية مقبلة.. متفائلة.. إلى شخصية– لا أعنى متشائمة– «العفو» بل قل أكثر واقعية.. مشاعرى الإنسانية التى تغلفنى وتغلف رؤيتى دائماً للأشياء أصابها حالة من الجفاف المزعج الذى أسعى للتخلص منه لأعود إلى نفسى التى أفتقدها وأشتاق إليها، ولكن ما باليد حيلة فالقلم ينساب إلى ما تنبض به الحواس!!
ولأننا نعيش كلنا- فى عالم تدق فيه أجراس القلق والخوف من كل ناحية واتجاه، لذا كان من الطبيعى أن أُقصف بمعلومات وأخبار تتسق وتتفاعل كنتيجة وكرد فعل طبيعى لما يجرى فى هذا العالم.
لذا لم يكن من العجب أو من المفاجأة أن يخرج فريق بحثى مشترك بين جامعة هارفارد الأمريكية والمنتدى الاقتصادى العالمى 2015 بتقرير حول الأعباء الاقتصادية العالمية التى تنتج عن الأمراض النفسية، حيث أوضح التقرير أنه بالرغم من تقدم العلم فى محاربة الأمراض المعدية خلال السنوات الخمس الماضية، فإن التحدى الأكبر ينحصر فى مواجهة كيفية التغلب على الأمراض غير المعدية كالقلب والسكر، حيث تتسبب هذه الأمراض فى وفاة 63% من إجمالى وفيات العالم، و80% من هذه النسبة وحدها مصدرها الدول التى يعانى أفرادها من موارد دخل محدودة، كما أورد تقرير للبنك الدولى. مشيراً إلى أن الوضع سوف يتفاقم ما بين 2010-2030، مؤثراً ومخفضاً لإجمالى الناتج المحلى (G.D.P) بـ 46.7 تريليون دولار!! أما المدهش فى هذا التقرير أنه توقع أن يكون منبع المصدر الرئيسى فى هذه التكلفة المهولة هو الآثار الناجمة عن الإصابة بالأمراض النفسية والتى ستبتلع أكثر من ثلث التكلفة الاقتصادية للأمراض غير المعدية من الآن وحتى عام 2030، بالإضافة إلى التأثيرات الاقتصادية الأخرى الناتجة عن قلة الإنتاج والرعاية النفسية والتى تكلف الاقتصاد العالمى حوالى 2.5 تريليون دولار فى السنة ليصل إلى 60 تريليون دولار بحلول عام 2030.
أمام هذا الوضع الدرامى المقلق، الذى يمر مرور الكرام فى ظل الظروف السياسية وما يرتبط بها من حروب ونزاعات ومكافحة للإرهاب وغيرها، يبقى العلاج النفسى رفاهية!! ويبقى الالتفات إلى عوارض الحالات النفسية أمراً ثانوياً، بالرغم – وفى اعتقادى الخاص- أنه لب المشكلة ومنبعها الأساسي!!
وإذا كنت قد أشرت فى بداية المقال إلى أننى اشتاق للعودة إلى ذاتى وإلى نبض مشاعرى الإنسانية، فهذا ربما يؤكد أننا كلنا أصبحنا، وإن اختلفت الدرجات، نشتاق إلى الدفئ الإنسانى وما تحمله هذه الجملة القصيرة من معانٍ عميقة نعيد من خلالها هذا التوازن النفسى الذى فقدناه من جفاء وخلل المشاعر حولنا!! وأتذكر فى هذا الصدد ما قام به أحد الشباب منذ أيام فى مدينة سيدنى بأستراليا، عندما وقف فى الشارع ملوحاً بيافطة كتب عليها «يمكنك الحصول منى على حضن ببلاش» free hugs وذلك ضمن حملة تبناها لرفع الوعى ولفت الأنظار لتزايد أعداد مرضى الأمراض النفسية فى العالم كله!!
وبالرغم من أن هذا الموقف أو دعنا نقول هذا الاحتواء اللحظى قد يبدو نوعاً من الدعابة أو الفكاهة للبعض، فإنه يحمل بين طياته تعبيراً معنوياً لمدى الاحتياج الإنسانى للعطف والتعاطف، احتياجاً لهذا النقص الحسى والمعنوى الذى يحتاجه كل إنسان من أجل البقاء النفسى السليم العفى.. وقد تستغرب من طول الطابور الذى وقف فيه الكبار والصغار من أجل نيل هذا «الحضن» من هذا الشاب صاحب هذا الحس الإنسانى المرهف.. طابور أعاد لى مشهد طابور 21 شهيداً مصرياً الذين ذبحتهم سيوف «داعش» الوحشية فى مشهد درامى باسم الإسلام، رافعة راية الكراهية والتكفير، بينما وقف شاب على الجانب الآخر من العالم المسيحى يستقبل طابور يفتح فيه ذراعيه وصدره رافعاً راية من أجل الحب والعطاء.