x

مفيد فوزي الذبح لأطفال المحاجر وأشجار المريلاند! مفيد فوزي الجمعة 27-02-2015 20:56


أشعر بالخجل عندما يأخذنى «الخاص» من العام، لحظتها أحس أن القلم يمارس رفاهية ما، وليس بالضرورة أن يكون العام هو مصير «عز» أو مصير الدورى، فهذا «العام» يخصم كثيراً من العام المؤلم سواء كان بحثاً عن أنبوبة بوتاجاز أو سرير فى مستشفى ميرى، والحق أقول إن السياسة بمعناها الفعلى والعملى هى أنبوبة البوتاجاز والسرير فى مستشفى ميرى، لقد عشت عشرين عاماً أو أكثر أنزل الشارع بعدسات «حديث المدينة»، «أمشط» أنين مجتمع من صرف صحى مفقود وانهيار مدارس فوق رؤوس تلاميذها وكيماوى لا يصل لفلاحين، حتى نواب سميحة والكيف والتأشيرات والموبيلات!! لم يكن «حديث المدينة» رفاهية يا أفندية ثورة يناير، كانت هماً عاماً وخاصاً، ويالدهشتى التى لم تهاجر بعد من صدرى حين تخرج قوى سياسية تصف أحكام براءة نظيف والعادلى بأنها «نكسة جديدة»، والأغرب أن هذه القوى تدعى احترام أحكام القضاء، ثم تتناقض مع نفسها فتهتز شخصيات الرموز أمام شباب يريد أن يشعر بأنه فى بلد له جيش قوى يدك أسوار داعش، وقضاء مسموع الكلمة وليس مسيساً. ولما لا يعثر الشباب على «حقائق» يذهب مرغماً إلى شاطئ الإلحاد، فهو يعلن أنه «كافر» بالبلد ومثقفيه، إنه «الإلحاد السياسى»، الذى يتمثل فى انسحاب الشباب من مواقع عمل فى المجتمع.

ومازلت إلى الآن أجزم بأسانيد شتى أن إعلامنا «قاهرى سكندرى» الهوى، ورغم أن لكل صحيفة مراسلين فى القرى والمدن يمدونها بالأخبار والحكايات إلا أن ما ينشر فى أغلب الأحيان إما جريمة أو حكاية مثيرة للدهشة.

أردت أن أخرج من هذا السياق بالسفر إلى المنيا بدعوة من مجموعة شباب وصفوا أنفسهم: «لا نقل وطنية عن شباب القاهرة والإسكندرية ولكننا لسنا فى الصورة وبيننا وبين المشهد مساحة جغرافية هائلة». وسافرت إلى عروس الصعيد كما هو مكتوب على بوابة الدخول إليها، هذه بلد حيدر باشا وعبدالحكيم عامر وهدى شعراوى، لكن عروس الصعيد فى مأتم، فمن «سمالوط» إحدى مدنها 12 شهيداً ذبحوا على أيدى داعش، صحيح هم مصريون ولكن تم اصطيادهم لأنهم «أقباط»، وسمالوط مثل مطاى مثل إسطال، لا مكان فيها لعمل ولهذا يتجه رجالها للسفر، ربما يموتون غرقاً على سواحل أوروبا، حيث تعبث الرياح الثلجية بقوارب صيد تحملهم إلى الحلم، وربما يسافرون إلى ليبيا عن طريق «قواعد عمل لهم» فى ليبيا، ولما كان موقع سمالوط مرتبطاً بطرق صحراوية تقترب من الحدود الليبية وتسهل الهجرة البرية غير الشرعية، فإن مجموعات كاملة وعائلات تمتهن حرفاً معينة كالنقاشة والبناء، اجتذبوا شباب قريتهم، وبالتالى يسافرون دون تردد. لماذا النزوح خارج المنيا أو غيرها من محافظات الصعيد؟ لأن فرص العمل معدومة والتعليم فقير الجودة والفرص فى ليبيا أفضل والفقر يطحن العظام.

لا أحد من كبار أثرياء الصعيد «يستثمر» فى الصعيد لأسباب مختلفة، وسامسونج افتتحت مصنعاً فى بنى سويف. إن مدينة صناعية فى المنيا ستكون فرصة عمل لتشغيل عمالة أكثر دخلاً من ليبيا بفكر «تملك» وليس توظيفاً.

■ الذبحات الصدرية

ومازال ماثلاً أمامى مشهد أطفال دون الثامنة عشرة يعملون فى المحاجر ورأيتهم وهم يسعلون سعالاً مختلطاً بالدم، لأن صدورهم أفسدها غبار المحاجر، هؤلاء يقعون صرعى «الذبحات الصدرية» أو السل، هؤلاء الأولاد كانوا «تلاميذ مدارس» وتحت ضغط الفقر والعوز والحاجة منعهم الأهل من الذهاب للمدرسة وألحقوهم بالمحاجر التى تلتهم بشراسة صباهم، هؤلاء هم المتسربون من الدراسة. وحين يوازنون بين الدراسة والمحاجر، يختارون المحاجر لأولادهم مهما كان الضرر البالغ. إن عمل أولاد دون الثامنة عشرة فى جو المحاجر ضد قوانين العمل، وقد سمعت اقتراحات من عقول صعيدية واعية لكنها أقرب إلى التنظير منها إلى الحلول العملية، مثلاً: قيل إن الصناعات الصغيرة فى قرى معدمة تشكل دخلاً لعائلة معدومة الدخل، وبالتالى تجد «الحل» فى تسريب أولادها من المدرسة إلى المحجر، علماً بأن الذبحات الصدرية تصيب 70٪ من أطفال المحاجر، ولا تزال المحاجر تعتمد على الأولاد «المتسربين» من المدارس، إنها حلقة مفرغة تحت سمع وبصر أجهزة البيئة، ولا أظن محافظاً اتخذ قراراً بوقف تسريب التلامذة بوضع مشروع للعائلات المعدومة المحتاجة التى تضطر اضطراراً لتلقى بفلذات الأكباد فى النار والموت بالذبحات الصدرية.

على الجانب الآخر، فإن الحجر الجيرى الذى يستخرج من محاجر المنيا هو قوالب الطوب الفريدة فى العالم، ومثلها فى الصين وروسيا، وفى حالة طحن هذه القوالب وتصير «بودرة» فإنها - بتقنيات خاصة - وبدرجات حرارة معينة تدخل فى صناعات الدواء ولها فائدة كبيرة، ومن المذهل أننا نصدر قوالب الطوب لليابان بثمن بخس «الألف طوبة بـ400 جنيه» وهناك تعالج بأساليب كيميائية ونستورد الدواء بالملايين، يعنى حاجتنا نبيعها بملاليم ونرجع نشتريها بملايين، كل هذا لا ينفى المشكلة القائمة «موت الزهور بالذبحات الصدرية بين فكى المحاجر». إن إحدى شركات الأدوية المصرية فتحت فرعاً لها فى الصين وعملت عقوداً مع شركات صينية لتوريد المادة الخام «قوالب الطوب الحجرى مطحونة». إننا نحتاج عقولاً وأبحاثاً وخبرات فى منطقة استخراج الحجر الجيرى، وما مدى سيطرة الدولة على محاجر المنيا، أم تراها «قطاع خاص» يشترون براءة الأطفال بقروش؟

ولا يمكن أن أغفل أن المنيا سياحياً كانت السياحة الدينية رقم 4 بعد القاهرة والأقصر وأسوان، ثم تراجعت تماماً ولم تعد على الخريطة السياحية، إننى أطلب من «المناضل السياحى» هشام زعزوع أن يأمر بإخطار الشركات السياحية بوضع المنيا فى البرامج السياحية، وعلى المحافظ القوى صلاح زيادة «ابن البلد» أن يرافق إحدى هذه الجولات كبرهان على الأمان. ثم كيف ننسى - تاريخياً - أن فى هذه البقعة من صعيد مصر وهى «جبل الطير» وقائع رحلة العائلة المقدسة فى مصر. إن من أبناء المنيا من له دور عظيم فى دعم وتطوير وترميم الآثار فى مصر مثل د. مونيكا حنا بنت مركز مطاى خريجة الجامعة الأمريكية وأستاذة علم المصريات فى جامعة برلين. إن الأديرة القديمة المنتشرة فى المنيا لابد أن تتطور لتناسب أماكن إقامة السياح والشرح للتاريخ المقدس بلغات العالم، ولابد من قرار سيادى بإعادة النقل النهرى لتصل السياحة الدينية إلى أوج قمتها.

يقول مثل صعيدى «جيت أساعده فى حفر قبر أبوه، سابلى الطورية ومشى» بمعنى أن هيئات دولية جاءت إلى المنيا وبنت 34 مدرسة للبنات، وعلموا أكثر من 300 ألف بنت فى 5 سنين ودربوا مدرسين على طرق التدريس الحديثة، وبعد انتهاء المشروع «التخت رجعت تانى وتبخرت التجربة». إن شاشات القاهرة لم تقدم أنماطاً من هؤلاء البنات الدارسات اللواتى سافرن ثم رجعن إلى مربع الصفر، ولكن لا مانع من تسليط الضوء على «سما المصرى» فهى تجذب مشاهدين أكثر، فهى «جان دارك البرلمان»!

■ محمود بدر

إن هناك حالة من العزلة الثقافية فى الصعيد وربما يظهر ذلك فى عدد زوار معرض الكتاب، إن الاهتمام بالغ فى الأكل والملبس وشقة فى المنيا الجديدة، والأمية الثقافية 40٪ والأمية التعليمية فوق ذلك بقليل، أما حالة «الوعى العام» فتشكو الفقر، لا أحد يخاطب شباب المنيا وشباب المنيا يعترفون «إحنا مش عايزين أضواء للشهرة بقدر ما إحنا عايزين صوتنا يوصل لمتخذ القرار»، وبمعنى أكثر دقة «لولا المركزية الشديدة فى الدولة ما كنا بحاجة لذلك».

هناك ملاحظة جديرة بالاعتبار وهى عدم تسليط الضوء على شباب الصعيد، إن تليفزيون المنيا لا يراه حتى أهل المنيا، ومنافسته لقنوات القاهرة بلا جدوى، ولم تدعم الدولة كما ينبغى الإعلام الإقليمى أى قنوات مصر الإقليمية، فدورها لايزال ترفيهياً بعد، سواء كان تليفزيون أسوان أو تليفزيون الإسكندرية، لم يحدث أن استطاع تليفزيون إقليمى تقديم نموذج يستحق أن نقول إنه «إنتاج هذه البيئة» وأتصور أن لقصور الثقافة دوراً لا أتصور أن يهمش، إن القنوات الإقليمية تعانى مادياً مثلما يعانى التليفزيون الأم فى ماسبيرو، إن شباب المنيا - مثلاً - يشعرون بأنهم درجة ثانية وعى، ويقولون إن هناك شباباً واعياً فى المنيا يفوق بكثير «محمود بدر» وعلى درجة من الفكر والإبداع وشغالين فى الصخر ولكن الإعلام بعيد عنا، ولما قلت لهم: هل تغارون من محمود بدر؟ قالوا: لا نغار إنما نريد فرصة مماثلة.

■ أشجار المريلاند!

فى كل دول العالم هناك دائماً محافظة على المساحات الخضراء، إنها دائماً تمثل «رئة» المدينة التى تتنفس من خلالها، وبناء أى أحجار عليها هو اعتداء على رئة المدينة، هذه القاعدة الحضارية ليست فى العالم الأول فقط، إنما فى العالم كله حتى الدول الأفريقية، إن نيجيريا اخترعت مدينة «ليجوس الجديدة» لتكون بمثابة بيوت سكنية تسبح فى خضرة، ولو كان برنس الصحافة المهذب والخلوق الراحل سعيد سنبل لكتب فى نفس الموضوع يطالب بأدبه الجم بإعادة النظر فى قرار ذبح أشجار المريلاند.

لكن ما حدث و«اللى جرى» أن إحدى الشركات ذات الوزن والاسم قررت إغلاق رئة المدينة الشهيرة بالمريلاند، وهى فرصة الهواء الطلق أمام سكان المنطقة، ولكن الشركة قررت بناء محال مول وجراح متعدد الطوابق. الذى فعلته الشركة أنها بدأت بذبح الأشجار ولها تاريخ منذ ميلاد المريلاند، هذه الأشجار تستجلب النسيم، ولكن البولدوزر يقضى الآن على أشجار المريلاند ولها عمر، و«قصفوا عمرها».

فهل لدى محافظ القاهرة خبر؟ وهل لدى رئيس الحى الذى تقع المريلاند فى حوزته خبر؟ وهل لدى رجال البيئة خبر؟ وهل لدى الذوق العام خبر؟

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية