صحيح خسر الأهلى السوبر، لكننى كمشاهد استمتعت، ولا أجد معبرا عن هذه المتعة فى الفرجة والإثارة فى المتابعة والكرة الجميلة السريعة المباشرة والصمود والتحدى حتى آخر فمتوثانية أجمل مما أوجزه كاتبنا الكبير حسن المستكاوى، فى حواره الإذاعى مع الكابتن أحمد شوبير، صباح اليوم التالى للمباراة عندما قال: (براڤو.. الأهلى لعب مباراة كبيرة. وأى واحد يقول أصل التغيير أو التشكيل أو جاريدو يبقى لا مؤاخذة مبيفهمش فى الكورة. الأهلى كويس، لعب كرة جديدة، لعب كما يجب أن يلعب. واللى عايز يفهم يعنى إيه أهلى، يشاهد آخر ٢٠ دقيقة بعد أن دخل مرماه هدف، فرغم توتر الموقف، فقد لعب بهدوء، وهجمات منظمة، وجمل تكتيكية. اللى عايز يعرف إرادة الأهلى يتفرج على حسين السيد وهو يرفع الكرة بلا يأس فى الثانية الأخيرة، حيث وقف عماد متعب فى المكان الصحيح، وأحرز التعادل).
هنا تدخل شوبير بسؤال: «يعنى إنت ضد الحملة التى تطالب بإقالة جاريدو، وإنه مبيفهمش ومبيعرفش؟». فرد المستكاوى بعصبية، وهو المعروف بهدوئه وألفاظه الدقيقة وتعبيراته المنتقاة وحساسيته المفرطة فى النقد: «بصراحة ده كلام فارغ. يا جماعة لو مبتفهموش فى الكورة فضوها سيرة. اتكلموا فى أى حاجة تانية: فى الأدب، الفن، السياسة».
علق شوبير ساخراً: «مبيفهموش فى الكورة، يتكلموا فى الأدب، ده إنت عايز تخلص علينا».
ورغم أن الكلام كان سريعاً وموجزاً فإنه كان شافياً وافياً، فالبعض لم يعد ينتقد ويحلل، بل يصفى حساباته الصغيرة، ويحدد اتجاه نقده بالإيجاب أو بالسلب، بالمدح أو بالذم، وفقاً لأزمته الشخصية مع المدير الفنى أو مدير الكرة أو مجلس الإدارة أو أى سبب تافه بعيد عن جوهر الموضوع.
وبالمناسبة، ما قاله المستكاوى سمعته تقريباً بالنص بعد المباراة مباشرة فى حديث تليفونى بينى وبين المهندس هانى أبوريدة، الذى حضر اللقاء من الملعب، وقال: «إذا أردت أن تقيم المدرب وتحدد أسلوب تطور لعب الأهلى فشاهد آخر ثلث ساعة، ستجد فريقا ناضجا تكتيكياً وفنياً، قادرا على التصرف بهدوء تحت الضغط، ولو قُدر لتجربة جاريدو أن تكتمل فستحدث طفرة فى أسلوب لعب الكرة المصرية، وستنعكس بالضرورة على المنتخب».
وبعد رأى المستكاوى وأبوريدة، الذى دائماً ما يفتخر بأن خبرته جاءت من الاحتكاك بمدربين كبار تولوا مسؤولية المنتخب فى آخر عشرين عاماً، ومشاهدة مئات المباريات العالمية من الملعب خلال وجوده فى الفيفا.. فقد زاد اقتناعى بأن تجربة المدرب الإسبانى مع الأهلى تستحق من الإدارة أن تساندها بقوة، وألا تستمع لمن قال عنهم المستكاوى «مبيفهموش فى الكورة».
وإذا كان الأهلى لم يحرز بطولة السوبر الأفريقية فى كرة القدم، فإنه أحرز لمصر انتصاراً أراه كبيراً وعظيماً و«سوبر» فى تلطيف العلاقة مع أشقائنا الجزائريين، بعد أن أفسدنا بأيادينا وإعلامنا وسياسة نظمنا الغبية قبل ثورة ٢٥ يناير علاقتنا معهم، ووجهنا لهم بقصد أو بدون، بدافع الغيرة أو التضليل، إهانات بالغة، حتى نغطى على خسارتنا أمامهم فى المباراة الفاصلة للصعود إلى نهائيات كأس العالم ٢٠١٠، التى أقيمت فى السودان، وهو تصرف أحمق منا جميعاً: ممن شارك بالكلام والإهانة، أو هرب بالصمت، لأننا صنعنا بيننا وبينهم فجوة كبيرة، ودمرنا فى لحظة غضب وانسياق أعمى خلف نظام سياسى فاشل علاقة تاريخية بين شعبين، جمع بينهما ما هو أكبر من العروبة: الدم الذى سال فى سبيل التحرر من المستعمر، والوحدة من أجل المستقبل.
فزيارة فريق الأهلى، بمجرد وصوله إلى أرض الجزائر العزيزة، قبر شهداء الثورة الجزائرية العظيمة، ثورة المليون شهيد، كانت تحمل رسالة اعتذار واعتزاز واحترام لشهداء هذا الوطن، وظنى أن الأشقاء الجزائريين فهموا الرسالة، فكان كرمهم وحفاوتهم وودهم ورقتهم وطيبتهم واحتضانهم بعثة الأهلى على المستوى الرسمى كبيرا وفخيما، حيث وزير الرياضة الجزائرية ينتظرهم فى مقام الشهيد، ثم يجرى خلفهم إلى الملعب ليستقبلهم محمد روراوة، رئيس الاتحاد الجزائرى، وينقلهم للتدريب فى ملعب أفضل، ويقيم لهم حفلة عشاء، ولولا أنها مباراة فى كرة القدم ومنافسة رياضية شريفة لأهدوا الكأس للأهلى حباً وتقديراً لشعب مصر، وتأكيداً على أنهم لم يتورطوا فى الإساءة لنا يوماً ما، أما على المستوى الشعبى فعلينا أن نستمع لشهادة زملائنا الإعلاميين الذين رافقوا البعثة، وبحكم شغفهم وتحركهم الدائم بين الناس استوقفتهم حالة الحب والدفء التى كان الجميع يتعامل بها، حتى رجل الشارع فى الجزائر، ولأن بعضهم لم يعش تاريخ نضال الشعبين وحلمهما المشترك فى الستينيات وامتزاج دمائهما على أرض سيناء فى حرب ٧٣، وتأثروا بالحملة الإعلامية وقت المباراة المشؤومة، ذهبوا وعقلهم الباطن يحمل الخوف والقلق والتوتر والترقب، فصُدموا وهم يتحركون فى الأسواق والشوارع، ويتلقفهم الناس بالترحاب والحب، لأنهم مصريون، فهذه الكلمة اللى اسمها مصر فتحت لهم أبواب المحبة وجعلتهم يمشون وعلى رأسهم ريشة تميز، ولزملائى أقول: اكتبوا شهاداتكم وانشروها على أوسع نطاق، حتى يعلم من ضللهم الإعلام أن الجزائر، أرضاً وشعباً، قطعة غالية من تاريخنا، بقدر ما نحافظ عليها نستطيع صناعة مستقبل أفضل وسط مجتمع دولى يريد أن يدفعنا لنأكل بعضنا بعضا ونتلاشى، ليبقى مسيطراً ونحن تابعون أو مقسمون لدويلات صغيرة وتافهة ومشتتة ومتناحرة على أسباب تافهة، وهل هناك سببٌ أتفه من مباراة فى كرة القدم، حتى تقع الفتنة بين شعبين؟!
ورغم حميمية المشهد فى مجمله والأثر الطيب الذى تركه فى نفوسنا، وهى قفزة فى عودة العلاقات الشعبية والإنسانية بين مصر والجزائر فإنه لم يأت عفوياً، بل نتيجة حس سياسى راق وأداء متميز، ورغبة صادقة لمجموعة عمل جعلت من المباراة فرصة لإصلاح ما فسد، دون عتاب أو حساب، وهذه المجموعة قادها من مصر محمود طاهر، رئيس النادى الأهلى، رئيس بعثة الفريق، وهانى أبوريدة، عضو الاتحادين الأفريقى والدولى، والسفير المصرى فى الجزائر، ومن بلد المليون شهيد، محمد روراوة، رئيس الاتحاد الجزائرى، ووزير الرياضة، وسفير الجزائر فى مصر، فهذه المجموعة تستحق التحية والتقدير مثل فريق الأهلى الذى كان مثالاً مشرفاً وراقياً سلوكياً وفنياً، وأمتعنا بالكرة وأصلح ما أفسدته السياسة.