فوق «طفطف» داخل سجن «مزرعة طرة» وعرباته الملونة بالأخضر والأحمر والأصفر، وضع 1963سجينا من المفرج عنهم بمناسبة عيد الفطر حقائبهم، وأمتعتهم، مستعدين للحظة الخروج من مختلف سجون محافظات مصر، تسبقهم حرارة الشوق إلى الأهل والأصدقاء والجيران، يكوى قلوبهم ندم على السنوات التى ضاعت من العمر خلف القضبان بسبب لحظة تهور أو ضعف، انتهت بغلطة لن يعودوا لها مرة أخرى، رفعوا أيديهم إلى السماء فرحين، فاليوم سيكون الزوج فى أحضان زوجته، والابن فى أحضان أمه، والأب سيسهر طوال الليل يلعب بين أطفاله.
منذ مدة قصيرة أصدر حبيب العادلى، وزير الداخلية، قراراً بتشكيل عدة لجان فنية وقانونية فى جميع السجون، لفحص ملفات النزلاء وتحديد مستحقى الإفراج بالعفو، تنفيذاً للقرار الجمهورى رقم ٢٩٤ لسنة ٢٠٠٩، بشأن العفو الرئاسى عن باقى مدة العقوبة لبعض المحكوم عليهم، بمناسبة الاحتفال بعيد الفطر هذا العام، وأسفرت أعمال اللجان عن انطباق القرار على ١٩٦٣ نزيلاً، يستحقون الإفراج عنهم بهذه المناسبة..
وتعهد العادلى بتحمل وزارة الداخلية الالتزامات المالية، المحكوم بها على بعض النزلاء «١٨ نزيلا» تعثروا مالياً ولم يستطيعوا الوفاء بها وكانت عائقاً أمام تمتعهم بالعفو الرئاسى هذه المرة إذ قام قطاع مصلحة السجون بسداد جميع الغرامات والمصروفات المحكوم بها على مستحقى العفو فى جميع السجون وإنهاء جميع الإجراءات أمام الجهات المختلفة.
عندما أخبرت إدارة السجن النزلاء الذين صدر لهم قرار بالعفو الرئاسى، لم يصدقوا أنفسهم.. اقترب أحدهم من زميله، وهمس فى أذنه: «مبروك.. هنقضى العيد فى بيوتنا.. بين أهلنا وأولادنا»، بينما قرر سجين آخر الصلاة ركعتين شكرا لله أصدقاؤهم الذين لم يحالفهم الحظ..
رغم آلام الفراق والابتعاد عن الأهل والأصدقاء قرروا هم أيضا الاحتفال بزملائهم المفرج عنهم، وأعدوا احتفالا صغيرا داخل العنابر، صفقوا وغنوا واحتضنوا بعضهم البعض، حتى الصباح.. تناولوا الأطعمة والحلوى، وراحوا يروون حكاياتهم خارج أسوار السجن.
وبينما كان يستعد المفرج عنهم، كانت إدارة السجون أخطرت الأهالى، الذين امتزجت فرحتهم بالدموع، عندما تأكدوا أن موعد لقائهم بأبنائهم من جديد «اقترب» وأن اللحظات السعيدة التى عاشوها قبل أن يغادروهم للسجن «ستعود»، هم أيضا قرروا الاحتفال، ولكن على طريقتهم الخاصة، ارتفعت الزغاريد داخل 1963 منزلا،
وكأن العيد هذا العام «مختلف»، الأمهات والزوجات يعددن الأطعمة والحلوى طوال الليل لأبنائهم الذين سيعودون معهم إلى قرى ونجوع مصر المختلفة داخل سيارات وميكروباصات اتفق الآباء مع أصحابها على اصطحابهم فى الصباح الباكر للذهاب إلى السجن واستقبال أبنائهم المفرج عنهم.
وأمام سجن مزرعة طرة، وقف الأهالى أمام بوابة حديدية ضخمة، يحيطها حراس السجن من كل الاتجاهات، فى الأيام العادية تجدهم يمنعونك من الاقتراب، ولكن بالأمس، لم تغادر وجههم الابتسامة، اقترب منهم أب ليسألهم عن موعد الإفراج عن ابنه، استقبلوه بابتسامة طيبة، أكدوا له أن ابنه ينهى إجراءات الخروج من السجن.
وقال أحد الأهالى: «شعرنا بسعادة بقرار وزارة الداخلية بالعفو عن أبنائنا السجناء، وأتينا اليوم لاستقبالهم والعودة بهم للاحتفال برجوعهم لنا سالمين.. عشنا أياماً صعبة، وكانت الدموع لا تفارق أعيننا، حتى هذه اللحظة، ولكن دموعنا اليوم، هى دموع الفرحة، دموع اللقاء بعد فراق دام عدة سنوات.
وأضاف: جئنا من كل مكان فى مصر، وجاء الآباء والأمهات والزوجات، كل منا يحمل مـــأســـاة بداخــــــله، وحكاية، فهناك من ألقى القبض عليه وترك زوجته وأطفاله دون مصدر رزق، وهناك من ترك أمه المريضة، وهناك من ترك والده المسن، الآن تعلم كل منهم «درساً قاسياً» وعليه أن يستفيد منه فى حياته المقبلة.. أن يتعلم كيف يبتعد عن أصدقاء السوء ويقترب من أهله الذين هم فى حاجة إلى كل دقيقة من وقته.
وفى داخل السجن، استيقظ المفرج عنهم فى الصباح الباكر، واستعدوا للحظة العودة إلى منازلهم، وضعوا متعلقاتهم داخل الحقائب، وودعوا زملاءهم ووقفوا ينتظرون إنهاء الإجراءات، بعضهم راح يصرخ: «الله أكبر»..
وبعضهم غنى بصوت عال.. وضعوا متعلقاتهم فوق «طفطف» السجن بألوانه الخضراء والصفراء والحمراء، حتى وصلوا إلى البوابة، وعندما فتح الحراس الأبواب ارتفعت «الزغاريد» وارتمى المفرج عنهم فى أحضان الأهالى، وامتزجت الدموع بالأحزان.
«المصرى اليوم» كانت هناك، وعاشت فرحة الأسر، وسجلت اللحظات الحارة وقصص المفرج عنهم. «وليد» لم تكن مأساته عادية.. ناهيك عن أن زوجته أنجبت طفلته الأولى «بسنت» منذ عام، وهو خلف أسوار السجن، ولم تكسره الأم الحبس والحرمان من الأهل والأصدقاء.. وإنما تدهورت حياته منذ 3 أيام، عندما توفى والده، ولم يستطع حضور الجنازة.
وليد عمر، قضى من حياته عاما ونصفا داخل السجن، عندما تقترب منه يعترف لك بأن العقاب جزاء «الأخطاء» التى ارتكبها، وأنه أخذ جزاءه العادل، ولكن عندما تسأله عن آخر من زاره فى السجن، تجد دموعه تتساقط بغزارة، جاء والده منذ 3 أيام لزيارته، عندما علم بأن العفو الرئاسى عن السجناء اقترب، سأل أحد الحراس «ابنى وليد هيخرج فى العفو السنة دى» وكانت الإجابة بـ«لا».. لم يتحمل قلب والده العجوز الخبر، وسقط مغشيا عليه، وفى المستشفى انتهت حياته بـ«سكتة قلبية»..
قبل أن تخبره إدارة السجن بأن الإجابة «خاطئة» وأن ابنه ممن تنطبق عليهم شروط العفو الرئاسى.
يروى وليد مأساته قائلا: قضيت خلف القضبان عاماً ونصف العام، وقبل 3 أيام توفى والدى عندما أخبره أحد الحراس بالخطأ أن قرار العفو لم يشملنى هذا العام، قلبه الضعيف لم يتحمل الخبر، ومات بـ«سكتة قلبية»، شعرت بضيق وحزن شديد، لم أستطع حضور جنازته، وتلقى العزاء.. رحل والدى بعدما كان يرعى طفلتى وزوجتى، ولكنى الآن خرجت، لأرعاهما، ورحل هو وكأنه كان ينتظر خروجى وعودتى للمنزل ويؤجل قرار رحيله.
أضاف: بدأت مأساتى فى السجن، عندما أخبرونى أن زوجتى أنجبت طفلتى الأولى بسنت، عمرها عام الآن، بعدما تزوجت وسجنت بعد زواجى بـ3 شهور، كانت سعادتى لا توصف، ولكننى حزنت لأنها ولدت بعيدا عنى، كنت أتمنى أن أضمها إلى صدرى، وعندما شاهدتها لأول مرة فى الزيارة قبلتها، وضممتها إلى صدرى، ودعوت الله أن أخرج من السجن لأرعاها وأربيها وأحافظ على زوجتى ووالدتى التى عانت معى.
أما «زيدان». فلم يكن يتخيل أن يتخلى عنه الجميع.. ولكن زوجته لم تفعل مثلهم.. وكانت مثالا رائعا للزوجة المخلصة، وكان أهلها «أصحاب واجب»، بهذه الكلمات اختصر محمد زيدان مأساته، وقال: تزوجت من عدة سنوات، وقضيت فى السجن عامين، وقبل دخول السجن كانت زوجتى حاملا فى طفلى الأول، لم أر أى شخص فى الزيارات، سوى زوجتى وأهلها..
تخلى عنى الجميع.. ولكنى سعيد لأن زوجتى كانت «مخلصة» وتحملت الكثير من أجلى هى وأهلها، أعتبرهم أهلى الآن.. بعدما وقفوا بجوارى. وصبرت زوجتى على ابتعادى عنها.
أضاف: الآن أتمنى رؤيتها وابنى يوسف الذى حرمت منه طوال العامين الماضيين، فرحت عندما أخبرونى أن قرار الإفراج عنى صدر، سعادتى لم توصف عندما علمت أننى سأقضى العيد فى أحضانهما.. سأعود إلى قريتى فى كفر الشيخ، إلى زوجتى «جيهان» التى تحملت وصبرت من أجلى، ربما أفعل المستحيل من أجلها وطفلى الصغير، وأعمل ليل نهار لتوفير حياة كريمة لهما، ولن أبتعد عنهما بعد اليوم.. سأقضى الباقى من حياتى لأجل إسعادهما.. فهما اللذان يستحقان ذلك.
وقال: كانت أسوأ أيام حياتى، عندما اكتشفت أن الجميع تخلى عنى.. لم أتوقع أن يحدث لى هذا.. ولكنى سعيد بأن زوجتى لم تفعل مثلهم.. وكانت مثالاً للإخلاص، والحب.. كنت عندما أراها أشكو لها، وكانت تداعبنى: «هو أنا ويوسف مش كفاية»..
الآن سوف أقول لها: «إنتى ويوسف حياتى كلها.. لن أبتعد عنكم مرة ثانية، أو أعود إلى هذا المكان الذى حرمنى منكم»، وسأقبل يد طفلى الصغير وأطلب منه أن يغفر لى غيابى عنه طوال هذه السنوات، وأتمنى أن أرد الجميل لأهل زوجتى الذين وقفوا بجوارى كأنهم أهلى وأكثر.
وقال إبراهيم عبدالقادر أحد المساجين المفرج عنهم إنه قبل القبض عليه بأيام احتفل بـ«خطوبته» على «هبة»، اشترى «محبس» ودبلتين ليرتبط بها للأبد.. وبدلا من زفافه عليها، زف إلى السجن، عاش سنوات داخله، يفكر فى والدته وخطيبته اللتين تركهما دون رعاية، ولكن هبة كانت «أصيلة».. لم تبتعد عنه رغم ابتعاده عنها، أو تفكر فى تركه يواجه مصيره وحيدا.
وداخل أسوار السجن كان اللقاء الأول بينهما بعد شهر من تطبيق العقوبة، وهناك وعدها بأن يكون زوجا وأبا صالحا، وألا يتركها أبدا بعد خروجه من السجن.. وبالأمس، تكرر الموقف، بعدما قررت إدارة السجون الإفراج عنه، اقترب إبراهيم من بوابة السجن، وجد والدته وخطيبته فى انتظاره، كانت عيناه تبحثان عن «هبة»..
تلك الفتاة التى لم تتخل عنه، وانتظرت حتى خروجه، رغم أنه طلب منها عدم انتظاره، والاستمرار فى حياتها بشكل طبيعى، فإنها رفضت، واصطحبت الأم إلى «مزرعة طرة» وكان اللقاء الأخير لهما فى السجن.
قال إبراهيم: كنت أنتظر هذا اليوم منذ سنوات.. لم أتوقع أن يتم الإفراج عنى بمناسبة العيد، كنت أشتاق إلى أمى وخطيبتى «هبة».. تلك الفتاة الأصيلة التى قررت انتظارى حتى خروجى من السجن، لإتمام زفافنا، عندما شاهدتها للمرة الأولى فى السجن، حزنت حزنا شديدا، ولكن لم أظهر أمامها حزنى، حتى لا تتألم، وبمجرد رحيلها، بكيت، وندمت ندما شديدا على تصرفاتى التى جاءت بى إلى السجن.
أضاف: واليوم، جمعنا اللقاء الأخير فى السجن، ودعنا سويا أسواره التى حرمتنا من رؤية بعضنا البعض سنوات طويلة، ودعناه إلى الأبد، بعدما وعدتها بعدم العودة إليه مرة ثانية، أو الابتعاد عنها، وكل ما أتمناه أن أتزوج من حبيبتى، التى عانت بسبب ابتعادى عنها، نعم أحفظ لها جميلها الذى توجتنى به إلى نهاية العمر..
لن أنسى وقوفها إلى جوارى، وعدم تخليها عنى.. سأضعها فوق رأسى، لأنها تستحق كل شىء.. لم تترك أمى لحظة واحدة، وكانت تهون عليها طوال الوقت.. وأنا سعيد بأن الله رزقنى بفتاة أصيلة مثلها، وأعتبر تلك السنوات التى قضيتها فى السجن هى السبب الذى جعلنى أعرف قيمة خطيبتى.