x

عمرو الزنط فى معنى دراما الإرهاب عمرو الزنط الجمعة 20-02-2015 20:42


تحدث الكثيرون عن التقنيات العالية التى استخدمها أعضاء «داعش» عند تصوير عملية ذبح المصريين الأقباط، والبعض قال إنها مستوحاة من أفلام هوليوود.. لكنها فى الواقع أقرب لسينما شمال أوروبا، بل عند مشاهدة الفيديو الذى ربما أثبت أن «الفن الهادف» ليس حراما، حتى فى نظر أبغض المتطرفين، تذكرت على الفور المنظر الافتتاحى لفيلم المخرج السويدى العظيم إينجمار برجمان «الختم السابع».. تذكرته فى زوايا الكاميرا واللقطات البانورامية لمناخ بحر تحوم فيه أمواج مضطربة، لكن مقيدة فى عمق صغير داخل خليج صخرى محاط بهضاب منخفضة.. المناخ المقلق المبشر بشىء مشؤوم فيه هلاك.

لا أعرف بالطبع ما إذا كان من صنع «فيديو داعش» قد تأثر فعلا بفيلم «برجمان»، فطرق برجمان الرائدة قد انتشرت فى مجال الفن عامة، مع ذلك فالأفكار التى يتحدث عنها الفيلم قد تكون ذات مغزى لفهم ما يحرك هؤلاء.

يبدأ الفيلم بتلاوة أجزاء من فصل الإصحاح الثامن من الإنجيل، الذى يتحدث عن نهاية العالم: «ولما فتح الختم السابع حدث سكوت فى السماء نحو نصف الساعة ورأيت السبعة الملائكة الذين يقفون أمام الله، وقد أعطوا سبعة أبواق».. ثم يتحدث الفيلم عن فارس ذهب إلى الحروب الصليبية، ثم عاد منهزما معنويا، بعد غياب طويل أضاع فيه عمره.. عاد ليبحث عن معنى للحياة والوجود نفسه، فى صراع مع الفناء المداهم. والموت فى فيلم برجمان مجسد فى شخصية لا تختلف كثيرا من حيث الزى والسلوك عن أعضاء داعش فى فيلمهم.

لن أتكلم هنا عن هاجس داعش وغيرها من حركات متطرفة بموضوع الحروب الصليبية- الذى يشير إليه الفيديو المشؤوم بالطبع- فهو معروف، لكن ماذا عن نظرة أعضاء داعش لمعنى الوجود، وللعالم ونهايته، وعلاقة تلك الأشياء بطبيعة الحركة والانتماء إليها؟ لقد كتبت من قبل عن المعنى الذى يمكن أن يعطيه الانتماء لجماعات «المجتمع المضاد»- أى الجماعات المغلقة، المتبنية لمفاهيم وطقوس تربط أعضاءها، الذين يعتقدون أنها تميزهم عن باقى الخلق.. الانتماء يعطى معنى لحياة من انعزل عن المجتمع العام لينخرط فى دراما صراع أكبر يعطى لحياته أهمية.

فأحياناً ينبثق المعنى عن اعتقاد الجماعة المميزة بأنها فى صراع مع العالم بأكمله، أما الساند النظرى للمعنى فقد يوجد فى نظرة الجماعة للتراث الدينى، وتجسيده يأتى فى طقوس الذبح والفتك.

فى مقال مطول نشرته مجلة «أتلانتيك» مؤخرا، يتحدث الكاتب عن تجربته فى الحوار مع أعضاء داعش ومناصريها، فلاحظ هذه الأشياء: اليقين التام بحتمية الصراع الشامل، رفض أى مساومة أو تنازلات فيما يتعلق باتباع التقاليد السياسية أو المفاهيم الأخلاقية المتبعة فى بقية العالم، وأخيرا الإحساس بأن الصراع فيه نوع من التحضير لنهاية العالم ولليوم الآخر، ولذلك فالتعامل اللائق مع العالم الذى نعرفه ونظرته لهم أشياء لا تعنيهم، لأنهم لا يعترفون به، بل ربما يعتقدون أنهم يُحَضِّرون لنهايته.. وهكذا نسمع فى «خطبة» الشاب الملثم فى فيديو المذبحة كلاما عن نهاية العالم، عن عودة السيد المسيح ليزيل الصليب... إلخ.

يلاحظ مقال «أتلانتيك» أيضا كيف يهتم أعضاء داعش، عند تعليل مواقفهم، بالرجوع الدقيق والملم للنص الدينى وتعليقات التراث. ولا أعتقد أن الرجوع للنص والتراث بالنسبة لهم موضوع فقهى بحت، فهذه فقط الأداة التى تتم من خلالها العودة الفكرية والمعنوية لماض ضبابى مثالى متخيل، فى محاولة لإعادة بناء الجماعة والقبيلة الأولية الصالحة- «قبل التلويث»- وهذه السمة هى من خواص الفكر الفاشى عامة، سواء كان مستوحى من تراث دينى أم لا، فهو يدعو للخلاص المستقبلى من خلال التطهير الراجع للماضى «النقى».

فى نهاية المقال المذكور، يستشهد الكاتب بمقتطف من كتابات جورج أورويل، الذى يقول إنه لا يمكن الاستهانة بجاذبية نداء الصراع والخطر والموت الذى تنادى به الفاشية، فمن الناحية النفسية والمعنوية يكون أحيانا ذلك النداء أقوى من الذى يمكن أن تَعِد الاشتراكية أو الرأسمالية الناس به، أى الحياة الكريمة.

ربما أن أورويل قد استخف بقدرة المجتمعات التعددية فى الغرب على التطور وتوفير البديل، لكن يبدو أن الكثير من المجتمعات العربية لم تفشل فقط فى تقديم البديل لنداء الصراع مع العالم، وأمنية التخلص منه بالكامل، بل مهد خطابها العام الطريق فكريا وثقافيا لإغراءات هذا النداء، فصدّرته للعالم المعاصر. والنتيجة هى دراما الفزع التى تمثلت أخيرا فى «فيلم» داعش.

فى نهاية فيلم برجمان، نسمع فقرة إضافية من فصل الإصحاح الثامن: «ثم بوق الملاك الثانى، فكأن جبلا عظيما متقدا بالنار ألقى إلى البحر، فصار ثلث البحر دما». هذا الجبل مجسد حاليا فى شرخ عميق فى هيكل الثقافة العربية المعاصرة.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية