x

هنا يجلس المثقفون والأدباء وأبطال الطاولة والشطرنج والسياسيون.. مقاهى القاهرة .. بوابات الحياة

الخميس 17-09-2009 23:00 |
تصوير : other

يبهجنى ويثير عندى التوقع والرغبة الحميمة فى القربى مرأى المقاهى لحظة الشروق، ما قبلها أو بعدها، بداية النهار، إنها البداية، حتى فى تلك المقاهى التى لا تغلق أبوابها على مدار الأربع والعشرين ساعة، مقاه عديدة الآن فى القاهرة تعمل بلا توقف، وقبل ربع قرن من بدء الألفية الثالثة، كان مقهى الفيشاوى العتيق الوحيد المصرح له بالسهر حتى الصباح، لذلك كان يقصده أهل الليل من الممثلين والصحفيين والشعراء والمتقاعدين الذين ينتظرون أن يفتح مسجد سيدنا الحسين أبوابه لصلاة الفجر، كان البشر من مختلف النوعيات والجنسيات، العقلاء والمجاذيب، يمرون به، أو يمر بهم، فالمكان هم وهم المكان.

فى بدايات النهار يتم كنس المقهى، ورشه بالماء، ونثر نشارة الخشب فوق أرضه حتى يسهل كنسه وإزالة الفضلات، للمقهى والعاملين به أصول وقواعد، فكل شىء يجب أن يكون نظيفاً، والمكان داع لا منفر أو طارد.

قبل تمام الشروق لابد أن تكون «العدة» جاهزة، و«العدة» تشمل الأكواب الزجاجية والفناجين والملاعق، والماء الساخن، وجمر الفحم المتقد فى الراكية لزوم النرجيلات، كذلك مواد المشروبات من شاى وقهوة وقرفة وحلبة وزنجبيل وكاكاو ولبن.

يتهيأ المقهى لاستقبال الزبائن منذ الصباح الباكر، ما قبل الشروق، تسرى الحركة بهدوء، النهار فى أوله، وكل شىء يجب أن يكون بعيداً عن الحدة، نائياً عما يجلب الكدورات، أو نوازع الشؤم.

تتشابه المقاهى فى الظاهر أو تختلف، لكن مضمونها متقارب، إنها مكان اللقاء بين الأصدقاء الذين لا تتسع بيوتهم لضجيجهم وصخبهم، أو لقضاء الصفقات وإدارة الأعمال، كثير من المقاولين وأصحاب الأعمال الصغار لا مكاتب لديهم أو مقار يجيئون فى الصباح لتوزيع الأعمال، وعند المساء لمراجعة ما تم وترتيب الأحوال للغد الآتى، فى المقاهى القريبة من دور المحاكم أو أقسام الشرطة، نلمح الكاتب العمومى، صورة متبقية من الكاتب المصرى القديم، إنه متخصص فى كتابة العرائض، والشكاوى التى يجب أن تقدم فى صياغات معينة إلى مستويات الإدارة المختلفة، الكاتب العمومى يمكن أن يكتب رسائل شخصية أيضاً، يمليها عليه أولئك الذين لا يتقنون القراءة والكتابة مقابل أجر معلوم، يتخذ هؤلاء أماكنهم عند مقدمة المقهى.

زبائن الصباح الباكر معظمهم عابرون، من الحرفيين أو صغار الموظفين أو التجار، هنا يكون المقهى بمثابة نقلة، محطة تتوسط الرحلة بين البيت ومقر العمل، كل منهم جاء ليعمل «اصطباحة» مشتقة من كلمة الصبح، أى يشرب كوباً من الشاى أو يرشف فنجان قهوة، وربما يتناول إفطاره.

غير أن هنا فى المدينة القديمة مقاهى ليست للعبور، إنها محطة انطلاق للعمل، أعداد كبيرة من العمال والحرفيين ليس لديهم عمل منتظم، إنهم بالتعبير الدارج «أرزقية»، يخرجون مع شروق كل يوم، وهم يجهلون إذا كانوا سيعملون هذا اليوم أم لا؟

المقهى مكان مناسب للانتظار، ومع مضى السنين أصبح هناك تقسيم نوعى، وما يشبه التخصص، جنوب المدينة، أشهر مقهى للطباخين يقع ناحية زينهم، فى الصباح الباكر نرى الطباخين، معظمهم من النوبة، يجىء الزبائن بعضهم راجل والآخر راكب، تبدأ المفاوضة حول الأصناف المطلوبة، وزمن إعدادها والأجرة.

فى أول شارع محمد على الذى صممه على باشا مبارك فى القرن التاسع عشر على نمط شارع ريفولى الشهير فى باريس، هنا يقع مقهى التجارة، إنه واحد من أقدم مقاهى القاهرة، رواده من الفنانين المتخصصين فى إحياء الأفراح، بعضهم يعزف على الآلات الموسيقية، وبعضهم يؤلف كلمات الأغانى، وآخرون مطربون، منهم من عرف طريقه إلى الإذاعة والسينما والتليفزيون وحقق شهرة، مثل عبدالعزيز محمود فى الأربعينيات والخمسينيات، وقد رأيته مراراً فى المقهى، فى ذروة مجده، وبعد أن بدأ غروبه الفنى، المطرب الآخر الذى خرج من شا رع محمد على هو محرم فؤاد.

فى مقهى التجارة يعيش بعض الفنانين على حافة الحلم والواقع، حدثنى أحدهم بثقة أنه لا يقل موهبة ولا علماً عن أشهر المطربين والموسيقيين، لكن محمد عبدالوهاب يقف فى طريقه، يستخدم نفوذه القوى ليعطل انطلاقته الكبرى.

الشروق فى مقهى التجارة يعنى الغروب، معظم رواده يبدأ توافدهم آخر النهار، إذ يسهرون طوال الليل فى الحفلات والأفراح، وينامون مع ساعات النهار الأولى.

فى هذا المقهى عرفت أمهر من قابلت من لاعبى الشطرنج، كان متخصصاً فى إصلاح الآلات الموسيقية الوترية، أما لعب الشطرنج فهوايته، وكانت له شهرة ويجىء لاعبون مهرة لمنازلته من مسافات بعيدة، وكانت يتطلع إلى اللعب أمام كاسباروف الروسى، مؤكداً قدرته على هزيمته، إنه يعرف كل خططه.

قرب ميدان باب الشعرية مقهى فسيح من مقاهى القرن التاسع عشر، مازال على مراياه ملصقات إعلانية لأنواع من السجائر لم تعد متداولة، هذا المقهى يقصده عمال الأفران المتخصصون فى خبز العيش والشطائر، على مقربة منه مقهى للمنجدين، هذه المقاهى الخاصة بالحرفيين مراكز تجمع، ومنها يمكن العثور على العمال المهرة والاتفاق معهم على أداء مهمة محددة، ومجرد انتماء العامل منهم إلى المقهى، يعنى درجة من الثقة والضمان.

للمخدرات مقاه شهيرة فى منطقة الباطنية التى تعد مركزاً من مراكز تجارة المخدرات، إنها منطقة وعرة، دروبها ضيقة، أزقتها كثيرة، نواصيها بلا حصر، مداخلها محدودة، لذلك يسهل مراقبتها أمنياً، سواء من جانب صبية تجار المخدرات، أو قوات الأمن التى تدس عملاءها، كانت الباطنية مركزاً لتجارة الحشيش، المخدر الشعبى التقليدى منذ العصور الوسطى، ولكن مع التغيرات الاقتصادية فى المجتمع المصرى خلال العقود الثلاثة الأخيرة وظهور فئات ثرية جداً، استتبع ذلك ظهور أنواع جديدة من المخدرات، بعضها أرخص وأردأ من الحشيش، أى البانجو الذى يزرع فى سيناء، وأنواع أخرى أغلى، مثل الكوكايين، الذى يعرف بالبودرة.

■ ■ ■

وكما أن مقاهى المخدرات معروفة، فكذلك مقاهى المثقفين فى وسط المدينة، والتى كانت مركزاً لنشاط التنظيمات اليسارية، خاصة فى الستينيات، وأشهرها مقهى ريش الذى شهد ميلاد حركات فنية وثقافية مهمة، وكان مركزاً لجلوس نجيب محفوظ، ولهذا المقهى تاريخ ممتد، كان يجتمع به أعضاء الجهاز السرى لثورة 1919 ضد الاحتلال الإنجليزى، ومنه جرت محاولة اغتيال رئيس وزراء مصر فى العشرينيات يوسف وهبى القبطى، الذى اختار الثوار شاباً قبطياً ليحاول اغتياله، هو طالب الطب عريان سعد، وقد عرفته بمقهى الفيشاوى فى الستينيات، وكان من أمهر لاعبى اليوجا فى مصر،

عندما قابلته كان قد اعتزل العمل السياسى منذ زمن طويل. خلال الستينيات اعتدت تدخين النارجيلة فى مقهى أنيق، نظيف، بميدان باب اللوق، لا يقدم إلا النرجيلة وأنواع التمباك الجيدة، إلى جانب المشروبات العادية، لم يكن يسمح بلعب النرد، أو الطاولة، أو الشطرنج، مثل معظم المقاهى التى تسمح لروادها بهذه الألعاب، بل إنها القاعدة، كان ذلك المقهى استثناء، وكان يجلس به عدد من اللاجئين «السياسيين» أعضاء حركات التحرر فى أفريقيا والبلاد العربية، بعضهم أصبح من كبار المسؤولين فى بلاده، وأحدهم أصبح رئيساً للجمهورية (قحطان الشعبى رئيس جمهورية اليمن الجنوبية)، وزعماء جبهات تحرير إريتريا، كان أعضاء الجبهتين المتنافستين يجلسون بعيداً عن بعضهم، على المقهى نفسه، وكان المعلم حريصاً على الفصل بينهما حتى لا يقع احتكاك أو صدام مزعج.

فى ميدان التحرير، كان مقهى إيزائيفتش، أحد المراكز المهمة لتجمعات المثقفين اليساريين فى الستينيات، كان صاحبه خواجة من يوغسلافيا، هرب إلى مصر بعد انتصار تيتو وقيام النظام الشيوعى، الطريف أن المباحث العامة كانت تغلق المقهى وتضع صاحبه تحت الرقابة كلما وفد جوزيف تيتو فى زيارة إلى مصر، وكانت تربطه علاقة قوية بالرئيس جمال عبدالناصر.

ترحل المقاهى بالبشر، ويرحل البشر عبرها، إنها مرافئ المدينة وزوايا أسرارها، يعتبر القاهرى المقهى ركيزة مكانية لانتمائه، فيقول: «أنا رايح قهوتى».

ويتحدث باعتزاز عن شلة المقهى وصحبه، والمقهى بالنسبة له عصبة وملاذ أيضاً، من أغرب المقاهى التى عرفتها، مقهى الخرس، يقع فى وسط المدينة، مقهى فسيح، جيد الإضاءة لا يقصده إلا الخرس، كنت أدخل إليه فأخجل من النطق، ذلك أن معظم رواده يتحدثون بالإشارة، يجىء كل منهم عبر مسافة بعيدة ليلتقى بالآخرين، وكان أحدهم بديناً، يجلس دائماً بمفرده، غير أن الابتسامة لا تفارق ملامحه، يتطلع إلى هذا ويرفع يده تحية لذاك، إنه فى حالة تواصل وانقطاع مع الوجود المحيط به.

■ ■ ■

من أقدم الشخصيات المرتبطة عندى بالمقاهى، المارشال على.

يعتبر ضريح ومسجد سيدنا الحسين المركز الروحى، ليس للقاهرة فقط، إنما لمصر كلها، تحيطه المقاهى والفنادق الشعبية، من المقاهى القديمة مقهى المجاذيب الذى يقع شرق المسجد، ومعظم رواده من الدراويش الذين هجروا أعمالهم ومقار إقاماتهم واستقروا بجوار الضريح القاهرى للحسين الشهيد، ابن بنت الرسول عليه الصلاة والسلام، الذى أخذ مكان إله مصر القديمة، الشهيد أوزير، كلاهما استشهد من أجل الحق.

عندما كنت طفلاً فى السابعة أو الثامنة، أصحب والدى لزيارة سيدنا الحسين، أمرّ بمقهى المجاذيب، عند الاقتراب منه تنتابنى رهبة، فسوف أرى المارشال على.

كان رجلاً أبيض الوجه، أحمر شعر اللحية، مكحول العينين، يرتدى حلة ضابط كبير بجيش لا يمكن تحديد هويته، على كتفيه رمانتان من الخيوط الحريرية وكأنه جنرال فى جيش نابليون بونابرت، أما غطاء الرأس فيشبه الأغطية القوقازية.

كان صدره مسرحاً لنياشين قديمة، بعضها مصرى أو عثمانى أو أوروبى، وإلى جانب النياشين علامات تجارية لسجائر بطل إنتاجها، ومشروبات من أول القرن، وعلامات غامضة، وكان يرتدى قفازات جلدية صيفاً وشتاءً، يجلس فوق مقعد مرتفع وكأنه كرسى العرش.

كنت أهابه، لكننى بعد دخولى المدرسة، وتجرئى على التجوال بصحبة زملائى بعد انتهاء اليوم الدراسى، صرت أقترب منه معهم، نقف على مسافة قريبة ونرفع أيدينا بالتحية العسكرية، عندئذ يقوم واقفاً، يرد تحيتنا بأخرى أحسن منها، مارشالية، وكأنه يستعرض قواته.

غير أن الموقف لا يستمر هكذا، إذ سرعان ما يصيح أحد الصبية بكلمة بذيئة جداً، موجهة إليه.

عندئذ يشهر سيفه، ويزأر مهدداً، وبالطبع ننطلق نجرى بأسرع ما فى وسعنا لكن المارشال «على نيابة» لم يغادر مكانه قط، حتى عثروا عليه يوماً مغمض العينين مفارقاً الحياة فى جلسته التى لم أره فى غيرها، حتى إننى لأعجب الآن، أين كان يرقد، أين كان يغفو؟

مازال البعض يذكرون المارشال «على نيابة» كطرفة، كإحدى الشخصيات الغريبة التى تعبر ميدان سيدنا الحسين، أو تقيم به، لكن من هو؟ من أين جاء؟ لا يتوقف أحد للإجابة، فما أكثر الذين عبروا القاهرة القديمة، وكل عبور يعنى انقضاء، أى موت، أى عدم، حتى وإن كان يعنى الوصول إلى مكان بعينه، كتب عديدة وصلتنا عبر القرون الخمسة عشر، تذكر سير شخصيات مرت بالقاهرة، بدءًا من السلاطين والأمراء حتى الصناع والتجار والحرفيين والفنانين المجهولين الذين حفروا الحجر، أو نقشوا الرخام، أو كتبوا على الجدران، لم يبق منهم إلا حضورهم الخفى الماثل فى تلك المبانى العتيقة، طوابير لا تنتهى تعبر المدينة، تأخذ منها وتضيف إليها، طوابير تجىء من العدم وتمضى إلى العدم.

ماذا بقى من الحاج فهمى الفيشاوى؟

مقهى يحمل اسمه، معظم رواده لا يعرفون صاحبه الأصلى، يطالعون لوحة زيتية رسمت له عام أربعين، أى قبل مجيئى إلى الدنيا بخمس سنوات، غير أن ما بقى منه عندى «قعدته»، عندما بدأت أتردد على المقهى بصحبة والدى فى مطلع الخمسينيات، كان الحاج فهمى الفيشاوى صاحب المقهى قد لزم مكانه عند المدخل، فوق دكة خشبية عريضة تمكنه من النوم متمدداً، إذا غفا، وفى يقظته يتكئ إلى مجموعة من الوسائد، يحدق إلى المارة وإلى زمنه القديم، بينما النرجيلة لا تفارق يده، نرجيلة رشيقة جميلة، يفوح منها دخان التمباك الفاخر، إلى يمينه يقف جواده العربى الأصيل، كان يبذل عناية خاصة به، يداعبه، ويتبادل معه النجوى ويغسله بيده، لكننى لم أره يمتطيه، لم أشهده يركبه إلا فى الصور أو اللوحات المعلقة فوق جدران المقهى.

إلى الجدار عُلق قفص كبير به أنواع نادرة من الحمام، كان يمضى أوقاتا طويلة فى التطلع إليها، وكأن حواراً صامتاً يجرى.

فى شتاء عام تسعة وستين من القرن الماضى، أصدر محافظ القاهرة قراراً غبياً بإزالة المقهى الشهير، ولم تنجح الحملة التى نظمها عدد كبير من المثقفين لوقف القرار، وتحدد يوم معين لبدء الهدم.

قبل يومين من الموعد المقرر أغمض الحاج فهمى الفيشاوى عينيه، أغمضهما إلى الأبد، لم يحتمل رؤية المعول يرتفع ليهدم المقهى، مقهاه، مكانه، أيامه، عمره وحضوره، غير أن الغريب ما جرى للحصان وللحمام، مازال أهالى المنطقة وأبناء خان الخليلى الذين عاصروا تلك الأيام يذكرون ما جرى.

الحصان مات بعد رحيل صاحبه بساعات، أما الحمام فامتنع عن الطعام والشراب، حتى قضى.

ولم يتبق من المقهى إلا ركن صغير مازال يحمل الاسم القديم، الفيشاوى مجرد اسم، اسم مجرد، مازال قادراً على جذب الرواد، ومعظمهم الآن من الشباب الذين لا يعرفون إلا اسم المكان ويجهلون ما كان عليه من مجد قديم.

■ ■ ■

من الذين عبروا بالمقهى وتتردد سيرتهم أحياناً، إبراهيم الضرير، بائع الكتب، كان قزماً، قصيراً جداً، ممتلئاً، يحمل عدداً كبيراً من الكتب القديمة، يمشى متمايلاً، يقف ليصيح..

«معانا الكتب الممنوعة...»

كان يقصد بالنداء، الكتب الجنسية الممنوعة من التداول، مثل الطبعات القديمة من ألف ليلة وليلة، و«رجوع الشيخ إلى صباه»، و«المفاكهة والائتناس فى ذكر مغامرات أبونواس»، و«الروض العاطر»، كانت هذه الكتب ممنوعة، وضبط نسخة واحدة منها مع شخص قد يسبب مشاكل لا يمكن التنبؤ بمداها، لكن إبراهيم الضرير اعتبر استثناء، لا أحد يقربه، ليس لأنه من معالم المكان، إنما لأنه «بركة»، هكذا يعتبر البعض فى القاهرة القديمة، يتفاءل الناس به، وكان درويشاً هائماً يعتقد الناس فيه.

حدث فى نهاية القرن التاسع عشر أن قررت السيدة خوشيار هانم أم ملك مصر وقتئذ، بناء مسجد ضخم فى مواجهة أعظم مساجد مصر على الإطلاق، مسجد السلطان حسن المشيد فى القرن الثانى عشر الميلادى، أنفقت من مالها قدراً كبيراً، وجاء تصميمه عثمانى الطراز مع تأثيرات مملوكية قوية.

مات الخديو إسماعيل، وبعده الخديو توفيق، ودفنا به، وبعدهما ماتت السيدة خوشيار هانم ودفنت به، أصبح المسجد مقبرة ملكية، يرقد فيه الآن سبعة ملوك مصريين، آخرهم الملك فاروق الذى عزلته ثورة ضباط الجيش فى يوليو 1952 بقيادة جمال عبدالناصر، وآخر ملك دفن فيه ملك الملوك شاهنشاه إيران، الذى طُرد من إيران بعد الثورة، وضاقت عليه الأرض، فلم تقبله أى دولة إلى أن قرر الرئيس السادات استضافته، ولم يمكث الشاه رضا بهلوى وقتاً طويلاً، مات نتيجة مرضه بالسرطان، وتم دفنه بجوار ملوك مصر السابقين،

وكانت زوجته الأولى مصرية، الأميرة فائزة شقيقة الملك فاروق، لكنها لم تكن تنجب فطلقها، وتزوج السيدة فرح ديبا التى لاتزال تقوم بزيارته فى قبره كل سنة فى ذكرى رحيله، تجىء إلى هذه الزاوية النائية من المسجد التى يرقد فيها آخر ملوك إيران، والذى احتفل قبل خلعه بسنوات بمرور ثلاثة آلاف عام على اعتلائه عرش قورش، عرش الأكاسرة ملوك إيران، هل تصور يوماً أنه سيرقد إلى الأبد فى هذا الشارع القديم من القاهرة، بالقرب منه ملوك وملكات مصر لكن معظم الناس لا يعرفون مراقدهم، فالمصريون لا يحتفلون بذكرى الحكام، لا يقيمون لهم الموالد، إنما يُعرف المسجد الآن بمسجد الرفاعى، من هو الرفاعى؟

حدث فى الربع الأول من القرن الماضى أن ظهر درويش مجذوب، لا يعرف أحد من أين جاء، أقام بجوار باب المسجد الضخم، وكان يهذى أحياناً بجمل غير مفهومة، وكان يغيب أحياناً عن الوعى، فيظن الناس أنه رحل إلى هناك، إلى حيث لا يمكن تحديد موضع معين، اعتقد فيه القوم واعتبروه «بركة»، وعندما توفى صباح يوم بارد، قرر القوم دفنه فى مدخل المسجد، كان اسمه أحمد أبوشباك الرفاعى، أى المنتمى إلى الطريقة الرفاعية، إحدى أشهر الطرق الصوفية فى العالم الإسلامى، ويشتهر رجالها بقدرتهم على إخراج الثعابين الضارة وتطويعها، والمشى فوق النار، وبلع الأسلحة البيضاء.

نسب الجامع كله إلى هذا الدرويش الرفاعى المجهول، وأصبح يُعرف به، يقع ضريحه فى مدخل المسجد الشاهق، وكأنه «بنى من أجله»، أما الملوك الراقدون فى الداخل فلا يعرفهم أحد، كانوا أغراباً عن المصريين، أجانب وإن أقاموا فى الحكم أكثر من قرن ونصف القرن، منذ انتهاء حكم الأسرات المصرية لم يقدس المصريون إلا الرجال والنساء الذين صلحت سيرتهم، وسعوا بين الناس بالخير، سواء كانوا قديسين أو صالحين أو شيوخاً أو صوفية، كل الحكام الذين تعاقبوا عليهم عبر ستة وعشرين قرناً كانوا أغراباً،

لذلك ليس صدفة أن الحاكم الوحيد الذى وضعه المصريون الفقراء فى منزلة أقرب إلى القديسين فى العصر الحديث، هو جمال عبدالناصر، لأنه كان منحازاً إليهم، لكن منزلته تلك يرفضها بعض من أضيروا أو انتموا إلى اتجاهات سياسية ناصبته وناصبها العداء مثل الإخوان المسلمين والإقطاعيين وبعض اليساريين، كان عم إبراهيم بائع الكتب الممنوعة «بركة»، غير أنه تميز بقدرة هائلة على توليد النكتة، وكان هو الوحيد الذى يمكنه أن يهزم نجيب محفوظ إذا تراشقا بالنكت، ولكم شهد مقهى الفيشاوى فى الأربعينيات والخمسينيات مثل هذه المباريات فى ليالى الصفاء والأنس.

من أهل الأنس المعلم جلال، يمكن القول إنه فتح عينيه على عالم المقاهى، كان جده صاحباً لمقهى أنيق، نظيف، مشهور بالشاى والنرجيلة، ورثه عن والده، مع شقيقه، ولأن المقهى قريب من دار الإذاعة القديمة، فكان مقصداً للفنانين والصحفيين، والتجار من أصحاب المحال بوسط المدينة.

كان شقيقه يدير المقهى من الشروق إلى الغروب.

وكان جلال يتولى المسؤولية من الغروب إلى الشروق، كان من أهل الليل، كان مرحاً، ابن نكتة، ينطلق لسانه خاصة بعد اكتمال استحلابه لفص الأفيون، وكنت أكن له مودة، وأعجب بطريقته فى التعبير، فهو فى حالة إبداع دائم، معلم حقاً، يتقن أصول المهنة، ولذلك كان عدد من كبار الموظفين فى أجهزة الأمن، والمؤسسات الحساسة يترددون عليه، ويؤثرون وقته الليلى، كان من خلال علاقاته بهم ينهى إجراءات هذا مع ذاك، يحل المشاكل، ويقضى الحاجات،

غير أن أمراً واحداً كان يقلقل اتزانه، وعلاقاته، ليس بالناس فقط، إنما بالمقهى نفسه، مقر عمله، وعمره، وسنده فى الحياة، أن تتبدل الحياة ويفارق الكار، أو تضطره الحياة إلى تقديم تنازلات مثل تقديم المعسل إلى الزبائن، كان ما يغضبه أن يجلس أحد الزبائن ويطلب حجر معسل، إهانة ما بعدها إهانة، رحل جلال وشقيقه الحاج رشاد، واحتفظ الابن سعيد بالمقهى، نفس المعالم، ونفس العناية، صحيح أنه يقدم المعسل الآن، ولكنه لايزال من أجمل المقاهى ومن مرتكزات ذاكرتى.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية