(1)
اعتصم خبراء وزارة العدل أمام الوزارة، وعلى سلالمها الخارجية، مدة 59 يوماً متواصلة، أملاً فى أن يجدوا أذناً سامعة تصغى لمطالبهم، أو عقلاً راجحاً يتداول الرأى معهم لحل أزمتهم، أو قاضياً عادلاً فى وزارة العدل، يقضى بقول فصل، يحق الحق لا غيره، فى قضيتهم.
ولكن شيئاً من ذلك لم يكن!!
وعندما ضاقت السبل بعقلاء الدولة ونظام الحكم أمام الاستمساك المستمر من الخبراء المعتصمين بحقوقهم، وأمام التأييد المتزايد لمطالبهم فى الأوساط القضائية والثقافية والقانونية، تحرك - عندئذ - الدكتور فتحى سرور، أحد الرؤساء الثلاثة «بالتعبير اللبنانى!»، ليحاول احتواء الأزمة.
واستجاب الخبراء لدعوته ثقة فى شخصه الكريم، كما قالوا فى بيانهم الصادر بتاريخ 2/9/2009، وقرروا تعليق اعتصامهم مؤقتاً مع تعليق العمل بالكتابين الدوريين رقمى 8 و9 لسنة 2009، وهما الكتابان اللذان سببا الأزمة وأشعلا فتيلها.
(2)
وكلف الدكتور أحمد فتحى سرور لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية فى مجلس الشعب، بعقد جلسة استماع لبحث أزمة خبراء وزارة العدل، ودعا وزير العدل للحضور - أو من ينيبه - فى تلك الجلسة، فلم يحضر أحد، لا معالى الوزير الجليل، ولا أحد من مساعديه، وكان هذا الغياب المتعمد دليلاً جديداً على الكيفية التى تتعامل بها السلطة التنفيذية مع السلطة التشريعية، ورسالة تبعث بها السلطة التنفيذية إلى الجميع: إنها ووزراءها وجميع أتباعها فوق كل سلطة أخرى فى هذا الوطن، فكما أن أحكام القضاء لا تنفذ إلا إذا شاءت السلطة التنفيذية ذلك، فإن طلبات الحضور إلى مجلس الشعب، التى يساندها الدستور والقانون واللائحة الداخلية للمجلس نفسه، لا تلقى إليها السلطة التنفيذية بالاً ولا تكترث بها.
لقد حضر جلسة اللجنة التى انعقدت يوم 9/9/2009 نحو مائة عضو، أو يزيدون، من أعضاء المجلس الموقر وأعضاء اللجنة الأصليين عددهم أقل من ذلك بكثير، لكن اهتمام أعضاء مجلس الشعب بقضية الخبراء وإدراكهم للآثار المدمرة التى يمكن أن تترتب على استمرار الأزمة، وحرصهم على مساعدة المستشار الجليل وزير العدل لإيجاد مخرج من الباب الذى أغلقه على نفسه وعلى وزارته، كل ذلك دفعهم إلى تطبيق نص المادة «59» من اللائحة الداخلية للمجلس الذى يجيز لأى عضو أن يحضر اجتماعات أى لجنة.
وقد شاهد هؤلاء الأعضاء جميعاً وشاهد رئيس قطاع خبراء وزارة العدل المهندس الزراعى حسين زكى، ورئيس نادى الخبراء المهندس الزراعى محمد ضاهر - اللذان حضر الاجتماع ممثلين للخبراء - شاهدوا جميعاً مدى الاحترام والتقدير اللذين تتعامل بهما السلطة التنفيذية مع السلطة التشريعية، فأهم لجان مجلس الشعب تنعقد برئاسة رئيس المجلس، ويحضرها نحو مائة عضو من أعضائه، والدعوة موجهة سلفاً من رئيس السلطة التشريعية للحضور، وهى موجهة إلى شخص وزير العدل المستشار الجليل الذى يعرف الدستور والقانون معرفة تكاد تكون تامة، ومع ذلك فإن المستشار الجليل كأنه لم تبلغه الدعوة، ولا يجامل رئيس مجلس الشعب مجاملة شكلية بإرسال أحد مساعديه - وهم كثر - لمجرد الحضور، وهو حضور لا يقدم ولا يؤخر لأن أياً من المساعدين الأجلاء لم يكن لينقض أمراً أبرمه الوزير ولا ليبرم أمراً سبق له أن نقضه!
(3)
ورئيس مجلس الشعب مشهور بين عارفيه بالحكمة، ومجرب منذ زمن طويل فى القدرة على ضبط النفس، وهو سباق دائما إلى ما يحقق مصالح الاستقرار والاستمرار السياسى بلا مشاكل ولا معضلات، وهذا يقتضيه أن يزن كلماته التى يقولها علانية، وأن يتوخى الحذر فيما يمكن أن يسمعه الإعلام أو يذيعه أو ينشره، لكنه لم يتمكن من ممارسة شىء من ذلك بعد الموقف المثير للعجب، الباعث على الشعور بعدم الاهتمام، أو كما سماه الدكتور سرور بنفسه: عدم الاحترام، الذى وضعه فيه المستشار الجليل وزير العدل.
فكانت تصريحات رئيس مجلس الشعب التى نشرتها الصحف تتضمن أن: وزير العدل خادم للعدالة وليس رئيساً لها.
وأن: الحكومة فرطت فى حقها؛
وأن: الوزير أخطأ فى تطبيق القانون؛
وأن: الذى يحترم البرلمان يحترم نفسه؛
وأن: القرار الوزارى يخالف المرسوم بقانون الذى ينظم عمل الخبراء؛
وأن: الوزير تجاهل اعتصام الخبراء لمدة 58 يومًا (صحتها 59) وكان يجب عليه سماع مشكلاتهم؛
وأن: على الحكومة أن تعلم أن للبرلمان سلطة الرقابة عليها وفقًا لأحكام الدستور، ولا محل لوجودنا أصلاً إذا لم نطبق الدستور؛
وأن: اعتصام الخبراء كان وسيلة للتعبير عن مطالبهم؛
وأن: رئيس مجلس الشعب أرسل مذكرة للوزير حول مطالب الخبراء، وعددًا من أعضاء مجلس الشعب قدموا أسئلة للوزير.. لكنه تجاهل ذلك كله(!!)
وقد مرت خمسة أيام كاملة على هذه التصريحات المضرية الغاضبة الصادرة من رئيس السلطة التشريعية دون أن يعتنى بالرد عليها- ولو من باب المجاملة- أحد من رجال السلطة التنفيذية أو نسائها، هذا مع أن لرئيس الوزراء، ولكل وزير، متحدثًا رسميًا باسمه أو باسم وزارته، وهم يستطيعون التعبير عن احترام سلطة التنفيذ لسلطة التشريع دون أن ينطق الوزراء أنفسهم، أو يكلفوا رئيسهم عناء النطق، وليس هذا الصمت إلا دليلاً على مدى الاحترام الذى تحظى به أى سلطة فى البلاد من السلطة التنفيذية.
(4)
والواقع أن الذى سردتُه كله يمكن اعتباره من آثار قضية الخبراء، أو من توابع أزمتهم مع وزارة العدل، لكن حقائق هذه القضية الأزمة تبقى، فى ذاتها، محتاجة إلى البيان.
وأولى هذه الحقائق أن يعرف الرأى العام من هو الخبير وما دوره فى تحقيق العدالة.
الخبير هو شخص متخصص فى مسألة أو مجموعة من المسائل الفنية/ العلمية التى لا يمكن أن يدخل فى مقدور القاضى العلم بها علمًا كافيًا يمكنه من تصور حقيقة الواقع والحكم فيه. ومهمة الخبير هى تقديم العون الفنى العلمى فى المسائل التى استقر القضاء على وصفها بأنها «المسائل الفنية البحتة التى تقصر عنها معارف القاضى العامة»، (د. محمود جمال الدين زكى، الخبرة فى المواد المدنية والتجارية، جامعة القاهرة 1990 ص 21). والخبرة هى المشورة الفنية التى يستعين بها القاضى فى مجال الإثبات لمساعدته فى تقدير المسائل الفنية التى يحتاج تقديرها إلى معرفة ودراية لا تتوافران له. (د. آمال عثمان، الخبرة فى المسائل الجنائية، ص13).
وكل مسألة تحتاج إلى علم تخصصى أو معرفة لا تتوافر لدى القاضى يجب عليه الاستعانة فيها بالخبير المتخصص الذى يعينه بإبداء الرأى الفنى ليمكنه من شق طريقه فى الدعوى وصولاً إلى وجه الحق فيها، ولذلك وصف المستشار أحمد مكى، نائب رئيس محكمة النقض الخبير بأنه «قاضى الدعوى الفنى»، ووصف المستشار سعد النزهى، نائب رئيس هيئة النيابة الإدارية الخبراء بأنهم «قضاة الميدان... وهم عيون قضاة المنصة التى يبصرون بها الحقيقة الواقعية بين غيوم تصويرات الخصوم النظرية»، ووصف الدكتور سينوت حليم دوس، عضو مجلس الشورى الخبير بأنه «قاض فى معطف أبيض».
وقال الدكتور نصار عبدالله إنه: «إذا كان القضاء العادى يوصف بأنه القضاء الجالس، فى حين توصف المحاماة بأنها القضاء الواقف، فإن مهنة الخبير ما هى فى حقيقة الأمر إلا القضاء السيار المتحرك الذى كثيرًا ما ينتقل إلى موقع الدعوى على الطبيعة متحملاً فى ذلك من المشاق ومتعرضًا من المخاطر لما لا يتعرض له القضاء الجالس.. (وتلك) هى نقطة البدء الحقيقية التى ينبغى أن نبدأ منها إن كنا نريد إصلاحًا حقيقيًا بعيد المدى لمؤسسة العدالة»، وقد قيلت هذه العبارات كلها بمناسبة الأزمة الحالية للخبراء مع وزارة العدل.
وقد قيل قبل أكثر من نصف قرن إن «الخبير بمعنى العالِم، وهو شخص له مران واسع، ومعرفة ودراية فنية كبيرة فى علم أو فن أو صنعة من الصنائع أو عمل من الأعمال، وتلجأ الجهات القضائية والإدارية والأهلية إليهم لإبداء آرائهم فى المسائل الفنية التى يصعب عليها استقصاء كنهها، فالخبير إذن مساعد للقضاء ومعين له على كشف الحقيقة وإنارة الدعوى» (توفيق أبوعلم ومحمد أنور عبدالمعطى، المحاسبة أمام القضاء، 1953 ص22).
وفى المذكرة الإيضاحية لمشروع قانون الخبرة، الذى صدر بالمرسوم بقانون رقم 96 لسنة 1952، أن: «الخبير هو عون القاضى يبسط له الرأى ويضع تحت تصرفه معارفه وتجاربه.. ولهذا كان لزامًا على المشرع أن يضفى على مهمة الخبير من الأسباب ما يصونها ويعززها ويمكن لها من أمرها».
فإذا وقفنا على تعريف الخبير ومهمته، فإن أمثلة محدودة مما يكلف به الخبراء تبين خطورة العمل الذى يقوم به الخبير فى معرفة وجه الحق فى النزاع المعروض على القضاء، يندب الخبير لإيضاح الظروف الفنية البحتة للحوادث، أو لتعيين سبب العطل أو العطب فى آلة أو معدة أو مركبة خاصة أو وسيلة نقل عام أو خاص، ويندب لتصفية حسابات الشركات لأسباب شتى، ولتحديد نسبة العجز الدائم أو المؤقت الذى يصيب عاملاً فيمنعه عن العمل كليًا أو جزئيًا، أو لتطبيق سندات الملكية على عقار متنازع عليه، أو تعيين صنف بضاعة مختلف بشأنها، أو كشف حقيقة منقول أثرى، أو تحديد قيمة الضريبة المستحقة على تصرف ما، أو تحقيق الخط ونسبته إلى صاحبه، وتحديد وقت الوفاة عند المنازعة فيه، أو تحديد المواقف فى الجرائم المتعلقة بالأموال العامة والبنوك لما تحتاج إليه من خبرة حسابية خاصة، أو التحقق من كون العملات مزيفة أم لا فى جرائم ترويج العملات المزيفة، أو للتحقق من حدود الملكيات ومطابقة الخرائط المساحية عليها.. ومئات المسائل الأخرى التى لا يمكن لغير الخبير المحيط بدقائق العلم بها أن يبدى فيها رأيًا صحيحًا.
فأولئك، فى وصف أساطين الفقه والقضاء والقانون، هم الخبراء، وهذا هو عملهم، فهل يجوز لمجتمع عاقل، أو لحكومة تتمتع بالقدرة على إدراك المخاطر، أن تهمل علاج مشاكلهم سنين متطاولة ثم تدعهم يعتصمون على درج وزارة العدل التى ينتمون إليها شهرين كاملين وكأن أحدًا لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم؟!
(5)
الحقيقة الثانية، أن خبراء وزارة العدل تحال إليهم من المحاكم مئات الآلاف من القضايا كل عام، وقد أنجزوا فى خلال عام 2006 وحده 250 ألف قضية، وأنجزوا قبل بدء أزمتهم (فى شهر أبريل 2009) 392 ألف قضية، والمعيار القياسى المحدد من قبل وزارة العدل لإبداء رأى الخبراء فى القضايا، على مستوى الجمهورية هو 7240 قضية شهريًا، والإنجاز الفعلى الثابت مستنديًا للخبراء هو 29000 قضية شهريًا، والخبير الواحد ينجز شهريًا 240٪ من المطلوب إنجاز(!)
وهذا العمل الهائل الذى يتم إنجازه هو نتيجة جهد فوق الطاقة البشرية العادية، بل الفائقة، يقدمه برضاء ضمير وسخاء نفس 2300 خبير هم كل الطاقة العاملة لقطاع الخبراء فى وزارة العدل فى جميع أنحاء مصر!
وجميع هؤلاء الخبراء مؤهلون تأهيلاً عاليًا تخصصيًا فى مجالات الخبرة الثلاثة (الهندسة والمحاسبة والزراعة). ويحرص قطاع الخبراء على تعيين المتفوقين من خريجى الكليات الثلاث بحيث أصبح الأصل ألا يعين إلا الحاصلون على تقدير جيد جدًا عند تخرجهم فى الجامعة.
وهم لا يتوقفون عن التحصيل العلمى بل يستمر أكثرهم فيه، فهناك نحو 400 خبير حصلوا على درجة الدكتوراه، أو درجة الماجستير فى تخصصاتهم، و42٪ من الخبراء حصلوا على دراسات عليا تخصصية فى مجالات عملهم، والوقائع والأسماء وقصص الكفاح فى هذا الباب كثيرة، لكن المراد من ذكر ذلك هو التنبيه، تنبيه الرأى العام، إلى أن ما قيل ويقال عن مؤهلات الخبراء ودرايتهم وعلمهم الفني، بمناسبة اعتصامهم، غير صحيح جملة وتفصيلاً وبعض ما قيل، عن العبث بالقضايا، وقائع مكذوبة، حقائقها مدونة فى تحقيقات النيابة العامة التى كان أيسر شىء على وزارة العدل أن تحيط بها لكنها لم تفعل، وتركت من يتحدثون بالباطل يبدأون فيه ويعيدون مشوهين سمعة مواطنين شرفاء، المأخذ الوحيد عليهم أنهم يطالبون بحقوقهم.
(6)
الحقيقة الثالثة، أن القانون الذى ينظم الخبرة أمام جهات القضاء هو القانون الصادر بالمرسوم بقانون رقم 96 لسنة 1952، وهو قانون كان فى الوقت الذى صدر فيه، وفى ظل الأوضاع الاجتماعية السائدة آنئذ، يمثل تقدمًا كبيرًا فى مجال تنظيم الخبرة أمام القضاء، وكان رائد المشرع فيه بسط إشراف الدولة على عمل الخبير وإشعاره بالمسؤولية فى أدائه، ولذلك حول القانون كلا من مكتب الخبراء وقسم الطب الشرعى إلى وحدة قانونية مسؤولة عن عمل الخبراء التابعين لها ومشرفة عليهم إشرافًا يكفل- كما تقول المذكرة الإيضاحية- حسن توزيع العمل بين الخبراء، أو الأطباء الشرعيين، ويضمن سلامة الإرشاد وحسن التوجيه.
ولكن الزمن، والتطورات الهائلة التى أصابت المجتمع المصرى، فى سبعة وخمسين عامًا، جعلا من الضرورى إصدار قانون جديد للخبرة أمام القضاء، يوفر مزيدًا من الضمانات للخبراء فى أداء عملهم، وقدرًا من الحماية القانونية الضرورية لاطمئنانهم فى أثناء القيام بمهامهم، وفى هذا الباب تقوّل الذين لا يرضيهم أن يأخذ المصريون الطيبون حقوقهم على الخبراء إنهم يطلبون حصانة كحصانة القضاة، وأدخلوا فى روع المسؤولين السياسيين أن هذا محال إلا بتعديل الدستور، وكلا الأمرين غير صحيح، فالخبراء لم يطالبوا إلا بحماية قانونية تحول بينهم وبين التعسف الذى قد يتعرض له الخبير فى أثناء أداء عمله، ووجه هذه الحماية مزدوج: أن لا يتم تفتيش منزل الخبير أو مكتبه إلا بإذن من رئيس النيابة وفى حضور عضو نيابة يندبه رئيسها لهذا الغرض.
وأن يصحب الخبير عند إجراء المعاينة على الطبيعة للأماكن أو الأشياء المتنازع عليها رجل أمن أو أكثر - بحسب الحاجة - من رجال الشرطة ليوفر له مانعاً من غوائل الاعتداء عليه وعلى ما يحمله من أوراق ومستندات رسمية، وهو اعتداء وقع كثيراً على الخبراء، وكثير من وقائعه مسجلة فى محاضر شرطة وتحقيقات نيابة وقضايا تنظرها المحاكم.
فأى شطط فى هذه المطالب العادلة المشروعة يجعل الخبراء يستحقون ما لاقوه من وزارة العدل ومن الحكومة كلها؟
لقد بدأت مطالبة الخبراء بإصدار قانون جديد لتنظيم عملهم منذ سنة 1978، واستمرت إلى سنة 2006، عندما تقدم أحد أعضاء مجلس الشعب المستقلين بمشروع قانون، وقبل مناقشته تم سحبه من اللجنة المختصة. وعندما كان المستشار محمود أبوالليل وزيراً للعدل شكل لجنة لوضع قانون للخبرة، وطلب الوقوف على آراء الخبراء فى المشروع المعروض، وقدمت إليه - أو إلى اللجنة - الآراء موقعاً عليها من جميع الخبراء الفنيين العاملين بوزارة العدل. ثم ذهب الأمر كله إلى حيث تذهب كل المقترحات الجيدة، إلى غرفة مظلمة رطبة لا تخرج منها أبداً، ويحتج على المطالبين بأى تغيير للأوضاع السيئة بأن الحلول موجودة «!».
والمشروع الذى وضعه الخبراء، وناقشته اللجنة التي شكلها الوزير محمود أبوالليل كان يتضمن نصاً مهماً فى تحقيق العدالة للخبراء، هو الخاص بنصيبهم فى عائد صندوق للرعاية الصحية والاجتماعية يطالبون بإنشائه لتوفير تلك الرعاية لهم ولأسرهم، أسوة بموظفى مصلحة الشهر العقارى، وبأعضاء هيئتى النيابة الإدارية وقضايا الدولة. ولا شك فى عدالة هذا المطلب وضرورة الاستجابة له من الناحيتين الإنسانية والقانونية معاً.
وهذا كله لا شأن له بحصانة القضاة، ولا يضاهيها فى شىء، حتى يسوغ لمن شاء أن يتهم الخبراء بأنهم يريدون التحول من خبراء إلى قضاة «!».
وليس صحيحاً - من ناحية ثانية - أن إضفاء وصف الهيئة القضائية على إدارة ما من إدارات الدولة يقتضى تعديل الدستور، ذلك أن المادة 167 من الدستور تنص على أن: «يحدد القانون الهيئات القضائية..» إلخ. فلا يقتضى أمر وصف هيئة ما بأنها «قضائية» أكثر من نص فى قانونها على ذلك، ولو لم تكن لها أى صلة بولاية القضاء التى هى مناط هذا الوصف، وهذا هو الحال فى شأن النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة، والذين أقنعوا المسؤولين السياسيين بغير ذلك، لحملهم على عدم الاستجابة لمطالب الخبراء، دلسوا عليهم ولم يصدقوا فى تصوير الواقع القانونى لهم، وهو أمر يقتضى من أى مسؤول يملك ذلك، أن يحاسبهم حسابا يناسب ذلك التدليس القبيح الواقع منهم عليه.
(7)
الحقيقة الرابعة، فى قضية الخبراء، أن وزارة العدل أصدرت بتوقيع مساعد الوزير لشؤون التفتيش القضائى الكتاب الدورى رقم 8 لسنة 2009 بعدم تسليم ملفات الدعاوى المحالة إلى مكتب الخبراء إلى الخبير الذى يندبه المكتب لمباشرة الدعوى وأن ينتقل الخبير إلى المحكمة ليطلع على الملف فيها.
واستند الكتاب الدورى المذكور فى ذلك إلى نص المادة 138 من قانون الإثبات، زاعماً أن ما يجرى عليه العمل منذ سنة 1952 حتى الآن غير مطابق لصحيح القانون.
والنظر الصحيح فى نصوص قانون الإثبات يبين أن نصوص المواد 135 إلى 162 تتناول بصفة أساسية «خبراء الجدول» لا خبراء وزارة العدل، ويكفى للدلالة على ذلك قراءة نص المادة 136 التى تنص فقرتها الثالثة على أنه: «وإذا كان الندب لمكتب الخبراء، أو قسم الطب الشرعى، أو أحد الخبراء الموظفين وجب على الجهة الإدارية فور إخطارها بإيداع الأمانة تعيين شخص الخبير الذى عهد إليه بالمأمورية وإبلاغ المحكمة بهذا التعيين ويجرى فى حقه حكم المادة 140»، وذلك فى مقابلة الفقرة الثانية من المادة نفسها التى تجعل للمحكمة أن تختار «الخبراء من بين المقبولين أمامها إلا إذا قضت بغير ذلك ظروف خاصة..» والخبراء المقبولون أمام المحاكم هم خبراء الجدول وخبراء وزارة العدل وخبراء الطب الشرعى نطق بذلك نص المادة الأولى من المرسوم بقانون رقم 96 لسنة 1952.
وخبير الجدول، غير الموظف، أو غيره ممن لم يذكرهم بصفاتهم النص المشار إليه وأجاز ندبهم لأعمال الخبرة، هو الذى ينطبق عليه نص المادة 138 من قانون الإثبات الذى ينظم إطلاعه على الأوراق المودعة ملف الدعوى فى مقر المحكمة «بغير أن يتسلمها ما لم تأذن له المحكمة أو الخصوم فى ذلك». أى أن النص يتيح للمحكمة، بل وللخصوم، الإذن للخبير من غير الموظفين فى تسلم ملف الدعوى كاملا. فكيف يكون ذلك متاحاً لخبير الجدول وللخبير من خارج الجدول وممتنعاً على خبير وزارة العدل؟
ثم ما الفرق بين الموظف فى المحكمة والخبير فى الثقة، القائمة بكل منهما، الموجبة ائتمانهما على الأوراق الرسمية والعرفية التى تحتوى عليها ملفات الدعاوى؟ أوليست إدارات الحكومة وهيئاتها ومقارها قسائم متساوية فى حفظ الأوراق بها والمحافظة عليها؟ وما الذى يميز «دولاب» الكاتب أو أمين سر المحكمة عن «دولاب» الخبير فى مكتب الخبراء حتى تطمئن وزارة العدل على الأوراق فى «الدولاب» الأول وتخشى عليها العبث والإهمال والضياع فى «الدولاب» الثانى؟
لقد كان على الذين صنعوا القرار الإدارى الصادر به المنشور رقم 8 لسنة 2009 أن يتبينوا أن النصوص الخاصة بخبراء الجدول الواردة فى قانون الإثبات لا تلغى ولا تنسخ النصوص الخاصة بخبراء مكتب الخبراء الواردة فى المرسوم بقانون رقم 96 لسنة 1952. إذ المقرر أن النص الخاص يبقى سارياً إلى أن يلغى صراحة أو يعاد تنظيم موضوعه بنص جديد لاحق يجعل تطبيق النص الخاص الأول غير ممكن عملاً، أما إذا اختلفت الموضوعات التى تنظمها النصوص الخاصة فادعاء الإلغاء أو النسخ غير صحيح، وليست الآفة فى النصوص ولكنها فى القراءة المتعجلة، غير المدققة فيها، وغير الجامعة بينها. والقاعدة أن إعمال النص أولى من إهماله،
ونص المادة 51 من المرسوم بقانون رقم 96 لسنة 1952 يوجب إرسال ملف الدعوى إلى خبير مكتب الخبراء أو خبير قسم الطب الشرعى، بواسطة قلم الكتاب المختص. ونص المادة 50 من المرسوم بقانون نفسه رددت حكمه المادة 136 من قانون الإثبات سالفة الذكر، وجمعت بينه وبين نص المادة 51 فى جواز ندب خبراء الجدول المقبولين أمام المحاكم أو خبراء مكتب الخبراء. وفى هذه الحالة الأخيرة يكون الندب لمكتب الخبراء لا لخبير بعينه للعلة التى أوردت بيانها المذكرة الإيضاحية للمرسوم بقانون فى نصها السالفة الإشارة إليه.
والتأمل فى ذلك يظهر بطلان القرار الإدارى المسمى بالكتاب الدورى رقم 8 لسنة 2009. والرجوع إلى الحق خير من التمادى فى الباطل، والمستشار الجليل وزير العدل، ومساعدوه، الأمناء على العدالة أولى الناس بمراجعة أنفسهم والعودة عما سولته لهم من النظر السريع إلى النصوص الواردة فى قانون الإثبات دون جمع بينها وبين نظائرها ومكملاتها من النصوص الواردة فى قانون تنظيم الخبرة أمام القضاء.
(8)
الحقيقة الخامسة، أن وزارة العدل أصدرت كتاباً دورياً برقم 9 لسنة 2009 تضمن تعليمات من التفتيش القضائى إلى رؤساء المحاكم الابتدائية - الذين يعينهم وزير العدل - بإسقاط الاتهام فى جريمتى تجريف وتبوير الأراضى الزراعية إذا قدم المتهم إفادة من الأجهزة المحلية بأن الأرض داخل الأحوزة العمرانية - ولو كانت فى الواقع أرضًا زراعية - ويكون هذا الإسقاط، كما يقول الكتاب الدورى، بقوة القانون.
وقد فات هذا الكتاب الدورى، أو فات من أعدوه للإصدار، أمران: أولهما، أنه يتضمن تدخلاً فى القضايا وفى شؤون العدالة تمنعه المادة 166 من الدستور وتجرمه المواد 120 - 122 من قانون العقوبات.
وثانيهما، أن الأجهزة المحلية يستحيل عليها - لعدم توافر الخبرات اللازمة - أن تقوم بمطابقة الخرائط المساحية للأحوزة العمرانية على الطبيعة لتقرير ما إذا كان الموضع محل الاتهام يقع داخل الحيز العمرانى أم خارجه، والنتيجة أن ذوى السطوة والنفوذ والجاه والغنى سيفلتون بشتى الوسائل من العقاب لأن بإمكانهم دائماً الحصول على شهادة، من غير مختص ولا مؤهل فنياً، بأن الأرض موضوع التهمة داخل الحيز العمرانى، وأن الخبير الزراعى أو الهندسى المختص سيحال بينه وبين أداء عمله بسحب القضايا المذكورة من مكاتب الخبرة بغير سند من القانون، وهو ما حدث فعلاً، وجأر الخبراء بالشكوى منه ولم يلتفت إلى شكواهم أحد.
فالكتاب الدورى رقم 9 لسنة 2009، شأنه شأن الكتاب الدورى رقم 8 لسنة 2009 باطل قانوناً، ومخالف للدستور، وحائل بين المحاكم وبين تطبيق القانون تطبيقاً صحيحاً، ويفتح أبواباً لا تحصى لإفلات المعتدين على الأراضى الزراعية من العقاب، فأى مصلحة عامة يحققها هذا الكتاب وسابقه؟ وأى عين، بصيرة بالواقع، عليمة بنصوص الدستور والقانون، أقرته ودافعت عنه ولاتزال؟
(9)
الحقيقة السادسة، فى قضية الخبراء، أن مساعد وزير العدل لقطاع الخبراء والطب الشرعى أصدر قراراً وزارياً برقم 1565 لسنة 2007 بندب خبراء بأعيانهم إلى المحاكم الابتدائية لإبداء الرأى الفنى أمام تلك المحاكم شفاهة وبغير سماع الخصوم أو شهودهم.
وهذا القرار مخالف للقانون الذى يوجب دعوة الخصوم للحضور أمام الخبير وسماع أقوالهم وملاحظاتهم وتلقى مستنداتهم وأن يضمن ذلك محضر أعماله، وإذا باشر الخبير عمله دون دعوة الخصوم كان عمله باطلاً «المواد 146 - 149 من قانون الإثبات».
واستناد هذا الكتاب الدورى إلى نص المادة 155 من قانون الإثبات لا يبرئه من وصمة البطلان لمخالفة القانون. ذلك أن النص المذكور يجيز للمحكمة أن «تعين خبيراً لإبداء رأيه مشافهة بالجلسة دون تقديم تقرير ويثبت رأيه فى المحضر». وذكر لفظ (خبير) دون أداة التعريف (الألف واللام) التى سبقت ذلك اللفظ فى جميع نصوص قانون الإثبات يفيد قطعاً أنه غير الخبراء المقبولين أمام المحاكم (خبراء الجدول أو خبراء مكتب الخبراء) بل هو ممن وصفتهم المادة الأولى من قانون تنظيم الخبرة بقولها: «وكل من ترى جهات القضاء عند الضرورة الاستعانة برأيهم الفنى من غير من ذكروا».
ذلك أن القاعدة فى اللغة أن اللفظ المسبوق بأداة التعريف إذا تكرر كان المراد واحداً لا أكثر، فإذا جاء اللفظ منكراً فإنه يفيد آخر غير المعرَّف. والنصوص كلها تتحدث عن الخبير بأداة التعريف، ونص المادة 155 وحده يتحدث عن خبير بلا أداة تعريف، والمستفاد من ذلك أن المشرع أعطى المحكمة مكنة، إذا رأت حاجة لاستعمالها، أن تستعين بخبير تقدر فائدة رأيه فى الدعوى إذا سمعته شفاهة فى الجلسة دون أن يقدم تقريراً مكتوباً.
ومع ذلك فقد أدرك مصدر القرار الإدارى رقم 1565 لسنة 2007 خطورة الاكتفاء بالرأى الشفهى للخبراء الذين ندبهم للعمل بالمحاكم فأصدر القرار الإدارى رقم 798 لسنة 2009 مجيزاً للخبير أن يقدم تقريراً مكتوباً ويدعمه بإجراء المعاينة متى كلف بذلك. ولم يزد هذا القرار الإدارى طين القرار الأصلى إلا بِلَّةْ(!) فقد أصبحنا أمام تقرير مكتوب ومعاينة لا يحضرها الخصوم ولا يعرفون كيف تمت، وهو أمر مبطل لعمل الخبير من أوله إلى آخره.
ومن العجيب أنه عندما اعترض الخبراء على هذا الندب، وطلب بعض المسؤولين السياسيين معرفة حقيقة الموضوع أطلعهم المعنيون فى وزارة العدل على أحكام خبرة من سنين مختلفة وقالوا لهم إن (الندب) جارٍ منذ كانت الخبرة جزءاً من نظام الإثبات فى مصر.
والحاصل أن هذا تدليس ثانٍ، يضاف إلى التدليس الأول، فالندب فى أحكام الإحالة إلى الخبراء يكون لمكتب الخبراء المختص وهو الذى يكلف الخبير الذى يختاره بمباشرة المأمورية ويراقب عمله ويشرف عليه ويوجهه فيما احتاج منه إلى توجيه. أما الندب الذى تباشره المحاكم للخبراء المعينين بأسمائهم فى الجدول المرفق بالقرار رقم 1565 لسنة 2007 فهو تكليف أشخاص بذواتهم من الخبراء الحكوميين بمباشرة مأمورية محددة. وهذا غير جائز وفق قانون الخبرة أمام القضاء، ولا هو جائز وفق نص المادة 136/3 من قانون الإثبات.
وقد ترتب على هذا القرار الباطل قانوناً أن باشر خبراء زراعيون مأموريات مالية ومحاسبية بأوامر صدرت إليهم من القضاة، ومن أمثلة ذلك الدعوى رقم 3546 لسنة 2006 مدنى كلى جنوب القاهرة، والدعوى رقم 167 لسنة 2009 مدنى كلى جنوب القاهرة. فكيف يطمئن المتقاضون إلى أحكام أساسها الفنى صادر من غير مختص وغير مؤهل لإبداء الرأى فى موضوعها؟
وقد أصدر بعض رؤساء المحاكم الابتدائية - الذين يعينهم وزير العدل - تعليمات إلى القضاة بالاستعانة بالخبراء المنتدبين بموجب القرار رقم 1565 لسنة 2007 بدلاً من مكتب خبراء وزارة العدل. فرفض بعض القضاة هذا التوجيه، وعدّوه تدخلاً غير جائز - دستورياً وقانونياً - فى عملهم وطلبوا مناقشة الأمر فى الجمعية العمومية لمحاكمهم التى ستعقد فى خلال هذا الشهر.
(10)
الحقيقة السابعة، وهى أشد إيلاماً من سابقاتها، أن المستشار الجليل وزير العدل قد اجتمع بوفد من الخبراء (35 خبيراً) من مكاتب الخبراء فى شتى أنحاء مصر، عقد هذا الاجتماع بدار الدفاع الجوى بالقاهرة يوم 14/4/2009، ولما عرض الخبراء عليه مطالبهم العادلة وعد بسرعة الاستجابة لها، وتعلل بشأن عدم صنع ذلك من قبل بأن «الصورة لم تكن واضحة أمامه» ووعدهم بصدور قانون الخبرة الجديد فى دورة مجلس الشعب التى كانت قائمة آنئذ. ثم لم يكن من ذلك كله شىء. بل كان عكسه وضده مما أدى بالخبراء إلى الاعتصام، فما تلاه مما أصبح من العلم العام.
وأن مساعد وزير العدل، المستشار بولس فهمى إسكندر، قد اتفق مع رئيس نادى الخبراء المهندس الزراعى محمد ضاهر، ورئيس قطاع الخبراء بالوزارة السيد/ حسين زكى فى 28/7/2009، على عدد من الحلول التى تقضى على أسباب الأزمة، ثم تراجع عن اتفاقه - على حد قول السيد/ محمد ضاهر - وقال لهما: «كيف أعقد اتفاقاً مع موظف عندى»(؟!) إن هذه العقلية البيروقراطية التى تؤمن بأن الموظف ليس نداً - إنسانياً وقانونياً - لرئيسه، هى التى تؤخر أى حل لمشكلات العمل الحكومى الإدارى والفنى، وهى التى تجعل الأمور تتفاقم لتصل إلى مثل ما وصلت إليه.
فإذا أضيف إليها عقلية هيمنة السلطة التنفيذية على جميع السلطات بما فيها السلطة التشريعية، والاعتقاد بأن بإمكان أى مسؤول تنفيذى مهم (ولو قليلاً) أن يتجاهل طلبات السلطة التشريعية، ويغلق هاتفه المحمول فى وجه محاولات رئيس مجلس الشعب الاتصال به، ولا يكترث بمجرد التعقيب على الانتقادات العنيفة التى وجهها إلى مسلكه رئيس ذلك المجلس..
إذا أضيف هذا بعضه إلى بعض، تبيَّن الرأى العام، الذى هو الأمل الوحيد فى تغيير حالنا كله، أين الحق وأين الباطل، وأين الرشد وأين الغى، وأين الخضوع للقانون وأين الاستكبار والعناد والإباء... وتبيَّن للذين يعنيهم أمر بقاء الدولة، وحسن سمعة الحكومة، واستقرار النظام، ما الذى يجب عليهم أن يفعلوه، فإن قعدوا وسكتوا ولم يتحركوا فلا يحل لهم لوم المضربين والمعتصمين والمتظاهرين، فإنما من عملهم يسلَّطُ عليهم.
والحمد لله.