كان لسلامة موسى منهجه وطابعه المغاير فى الكتابة الأدبية والفكرية، التى تنم بالضرورة عن توجهات مفارقة للسائد والمطروح من الكتابات، حتى إن هذا وضعه على رأس قائمة كتاب التغريب بل وكاتب التغريب الأول،
فقد كان واضحاً وسافر الخصومة مع ميراث العربية وميراث الغيبيات الدينية والقيم الشرقية الراسخة والتليدة التى رآها بليدة، وقد أخذ على عاتقه فرز هذه القيم مع بدء مسيرته الكتابية عام 1913م،
فمرة يكون عنيفاً وأخر ى يكون مترفقاً أو مناوراً وظل على هذا الحال إلى أن توفى فى أغسطس 1958م وكان سلامة موسى فى طليعة الدعاة إلى التجديد وتجاوز التابوهات الفكرية والدينية ومن ثم وعلى قدر هذا الاجتراء، كان حجم الخصومات غير أن أحداً لا يختلف على ما أحدثه سلامة موسى من آثار فى الفكر العربى،
كان من أطيافها نزعة التمرد والتجاوز والتحرر، ويكفى أن أفكاره وكتاباته قد قلبت التربة المعرفية ونشطت الأفكار الدفاعية، ومن أجواء هذه الخصومات التى عرضت القناعات الفكرية للفرز والاختبار، نستعرض بعضاً من مقالات مهاجميه ومعارضى أفكاره، ومن هؤلاء مصطفى طه حسين ومحب الدين الخطيب.
ونعرض هنا لثلاثة نماذج من هذه الكتابات وهى لمحب الدين الخطيب وطه حسين ثم رد سلامة موسى على طه حسين والمازنى والعقاد.
محب الدين الخطيب: متعصب للباطل
الكتاب موضوعه أمانى العظماء فى تكون الإنسان وإبلاغها إلى خبيئة من المثل العليا، وهذه الفكرة جميلة لولا ما بثه الكاتب فى كتابه من آراء كقول سلامة موسى ص18: وكان أفلاطون يبحث عن شيوعية النساء ففى مثل هذا الوسط الحر نشأ أدب خلو من القيود لايزال «يوحى إلى الكتاب والأدباء روح التفكير النزيه الحر الجرىء» وقوله: وليس فى هذا النظام ما يخالف الطبيعة البشرية كما يتوهم القارئ لأول وهلة.. فإن العائلة لاتزال موجودة بوجود الأم التى هى صلة القرابة بين جميع السكان، ثم إن الأبناء لا يعرفون لهم أباً معيناً فالمنفعة الشخصية والأثرة الأبوية منتفية. ثم إن الشهوة الجنسية غير مقيدة لأن لجميع الأفراد أن يتمتعوا بها بشرط ألا يعقب نسل».
وكنا نستغرب من الأستاذ المؤلف شدة كراهيته للإسلام والنصرانية معاً - مع أن الثانية دين آبائه - إلى أن علمنا من هذا ما أساءت به هاتان الشريعتان إلى حضرته حيث قال له «ثم كان ملوك النصارى وخلفاء المسلمين عائقاً آخر يمنع التخيل والبحث عن المُثل العليا للحكومات والهيئات الاجتماعية».
ويقول: «وحسبك أن تعرف أن لجزيرة العرب حرمة فى نفس المصرى أكثر مما لممفيس، وأن موسى من الأنبياء المكرمين، وأن فرعون من الظلمة الفاسقين، ثم أذكر أن الطوبيات الدينية تغمر كل طوبى دينوية أخرى. فهذه كلها عقبات تمنعنا أن نحب مصر، وتعترض العاطفة الوطنية فى نفوسنا، فمنذ خرج البدوى (يعنى المسلمين) من جزيرة العرب على حضارة المصريين والرومانيين والإغريق، ووطنية مصر شائعة فى العالم الإسلامى ومدينتها مغمورة بالبداوة العربية». إن تعصب الأستاذ سلامة موسى للباطل قد وصل إلى شفاف قلبه حتى صار لا يرى فظاعة عبودية آبائه المصريين للفراعنة، بينما هو يشفق على الإنسانية من عبوديتها لله عز وجل.
طه حسين: غامض وشعوبى
الأستاذ سلامة موسى ليس من أصحاب الألوان السياسية الظاهرة، فقد يكون حراً دستورياً وقد يكون وطنياً، بل قد يكون اتحادياً، ولكنه على كل حال لا يعلن رأيه السياسى أو لا يتكلف إعلانه ولا يتخذ لنفسه لوناً.
وهو من أنصار الجديد، وهو يعلم أنى أرى رأيه وأشاركه فيه دون تحفظ ولا احتياط، ولكن نصره للجديد قد اضطره إلى شىء من الإسراف. كنت أحب ومازلت أحب - ألا يتورط فيه الباحثون المنصفون، وهو مسرف فى ازدراء الأدب العربى القديم والغض منه، وقد أفهم ألا يكون هذا الأدب القديم كما هو - ملائماً كله لذوقنا الحديث أو كافياً لحاحات أنفسنا، ولكن القدماء لم يضعوا أدبهم لنا وإنما وضعوه لأنفسهم، وليس من شك فى أن هذا الأدب القديم كان يلائم أذواق القدماء وحاجات نفوسهم، فإذا لم يلائم أذواقنا وأهواءنا فلنبتغ غيره لا أكثر ولا أقل، وهو مسرف أيضاً حين يقول إن الأدباء المصريين لم يكن لهم شأن فى حركة الاستقلال، لم يقودوا الأمة فى هذه الحركة، وإنما قادتهم الأمة بل قادهم الرعاع إلى الاستقلال، وقد يكون هذا حقاً بالقياس إلى هؤلاء الشعراء الذين تبعوا الجمهور ولم يتبعهم.
وموسى يرد: أنتم حلفاء النظام
أدب الملوك والأمراء والباشوات هو هذا الأدب الذى يدعو إليه الدكتور طه حسين، ومن أحسن ما اقترحه الدكتور طه حسين قبل نحو عشرين عاماً أننا يجب أن تنقل إلى لغتنا ترجمة أدبية لأحد الكتاب الأوروبيين.
إنه لولا انغماس العقاد وطه حسين فى الأدب العربى القديم لما خاطب طه حسين الفاروق بكلمة «يا صاحب مصر» ولما وصفه العقاد بأنه فيلسوف، ذلك لأن الأدب العربى القديم هو إلى حد بعيد أدب الملوك.
إن تاريخ أدبائنا فى مصر هو مأساة إنسانية قبل أن يكون مأساة أدبية، ولست أذكر شوقى الذى طعن فى وطنية عرابى ونظم الأشعار فى سبه، ومحمد حسين هيكل الذى أيد عدلى فى تحطيم وحدة الأمة، ثم بعد ذلك أيد زيور الذى جمع البرلمان فى الظهر ثم حله مساء اليوم نفسه وطرد الأعضاء ثم أيد محمد محمود فى تعطيل البرلمان ثلاث سنوات تقبل التجديد.
وأديب آخر هو إبراهيم عبدالقادر المازنى فقد اشترك مع الدكتور طه حسين فى تحرير جريدة يومية تخدم زيور فى مكافحة الشعب «هى جريدة الاتحاد».
وكان طه حسين والمازنى القلمين الفصيحين فى الدعوة إلى هذا التحطيم، ووجد فاروق الدكتور طه حسن الذى خاطبه أمام الطلبة «يا صاحب مصر» ووجد عباس محمود العقاد الذى يقول فيه «إننى لم أسعد من قبل بفرصة كهذه الفرصة الواسعة لاستجلاء طلعة المليك عن كثب والإصغاء إلى جلالته على انفراد فى جو لا مثيل له بين أجواء اللقاء والحديث، لأن جو الملك والديمقراطية ممثلان فى شخصية الكريم أجمل تمثيل، لقد سمعت فى هذا الحديث الواحد كلام فيلسوف، وكلاماً وطنياً غيوراً وكلاماً محدثاً ظريفاً، وطاف بخاطرى الإيمان وذكر الوطن».