x

د. حسام بدراوى يكتب: نهضة التعليم- تحديات التطبيق (3) .. سياسات مقترحة لتمويل التعليم

الخميس 15-07-2010 00:00 |

عرضنا فى المقال السابق سبع ملاحظات رئيسية ترتبط بتحدى عدم ملاءمة الموازنات المخصصة للتعليم لاحتياجات التطوير الشامل، وهى: انخفاض النسبة المخصصة للتعليم من الموازنة، بالرغم من زيادتها الرقمية عاماً بعد آخر، وضعف مشاركة القطاع الخاص، وعدم ارتباط الموازنة بالأداء، وضعف التمويل من الأنشطة الأكاديمية والمجتمعية، وعدم تحقيق الاستفادة القصوى من مِنَح ومساعدات التعليم، وانخفاض كفاءة استغلال الموارد المالية، والانخفاض النسبى للطلبة الوافدين وعدم وجود مؤسسات تعليمية نشطة خارج مصر.

وأعرض فى الجزء الثالث من سلسلة المقالات هذه لفلسفة ومبادئ السياسات المقترحة لتمويل التعليم الذى يهدف إلى توفير التمويل اللازم للتعليم لكى يحقق أهدافه بدرجة الجودة المطلوبة التى تخفف من الأعباء التمويلية المباشرة للأسر المصرية، خاصة محدودة الدخل. وتسعى هذه السياسات إلى تحقيق الآتى:

أولاً: زيادة التمويل لمؤسسات التعليم بمختلف مراحله على أن ترتبط هذه الزيادة نوعاً ما بجودة التعليم بالمؤسسة وتحقيقها رسالتها وأهدافها.

ثانياً: تنوع مصادر التمويل بهدف تقليل الاعتماد على التمويل الحكومى ذى المحدودية وفتح مجالات مستقبلية لزيادة التمويل متعدد الروافد. ويرسخ هذا التنوع مفهوم الشراكة بين المجتمع ومؤسسات التعليم والمسؤولية الاجتماعية للمواطنين.

ثالثاً: حسن إدارة الموارد الحالية والمستقبلية وترشيد إنفاقها، ضماناً للوصول لأعلى مردود مجتمعى، وتشجيعاً للأفراد والجماعات للاستمرار فى دعم مؤسسات التعليم. وهذا يفتح الباب لزيادة الاعتماد المستقبلى على الموارد غير الحكومية.

رابعاً: التوسع فى تشجيع القطاع الخاص كى يساهم مساهمة حقيقية فى إنشاء أو المشاركة فى إنشاء مؤسسات تعليمية أو تخصصات جديدة، فضلاً عن دوره فى تمويل وتحسين المؤسسات القائمة بالفعل.

خامساً: مواكبة التطور لأنماط أخرى من التعليم تستند على توظيف تكنولوجيا التعلم، مما يساهم فى تعزيز البيئة التكنولوجية دون الحاجة إلى بنية تحتية عالية التكاليف.

ولتحقيق هذه السياسات يجب مراعاة الأمور الآتية:

أولا: حتمية الاعتماد فى المستقبل القريب من الناحية الواقعية على تمويل الدولة كمصدر أساسى مع التدرج فى الاعتماد على مصادر أخرى مستقبليا، الأمر الذى يستلزم رفع ميزانية التعليم فى الموازنات القادمة للدولة. إن هذا هو مربط الفرس فى ترجمة أولوية التعليم عندما تنافسه ملفات أخرى فى الموازنة، إن هذا لن يكون اختيارا منفردا من الحكومة، بل يجب أن يكون اختيارا مجتمعيا، يعمل بإيجابية نحو توجيه تمويل أكبر للتعليم على حساب ملفات أخرى، نعلم أنها مؤثرة فى المدى القصير على المواطنين.

ثانيا: إن السياسات المطروحة هى حزمة سياسات مجتمعة لا تؤدى إحداها منفردة الغرض بل يجب توظيف الأمثل منها بشكل لامركزى، ضماناً لتحقيق أفضل النتائج.

ثالثا: ألا يعتمد تطبيق هذه السياسات على إحداث تغييرات آنية فى أى من مواد الدستور، ولكن يضع ذلك فى اعتباره فى مرحلة تالية، فهذه السياسات يجب أن تتفاعل وتتنامى فى ظل المناخ التشريعى القائم ويمكن إجراء تعديلات محدودة فى بعض القوانين والممارسات إن لزم الأمر.

رابعا: أن تنطلق هذه التوجهات من سياسات تم الاتفاق عليها فعلا مع الحكومة، وتتناغم معها وتعززها وعلى رأسها التوجه نحو اللامركزية وسياسات رفع الجودة والسعى نحو استقلالية مؤسسات التعليم العالى وحريتها الأكاديمية.

يتضح من هذا الطرح أنه يتحتم علينا لتحقيق مستوى التمويل المنشود أن نطرح مجموعة من السياسات المتكاملة لكل من التعليم العالى والتعليم قبل الجامعى، وهى كما يلى:

أولا: زيادة تمويل الدولة وربطه بمعايير الأداء: حيث نوصى بأن تزيد مخصصات الدولة للتعليم لتصل إلى 6% (على الأقل) من إجمالى الناتج القومى بشكل متدرج من الآن ولمدة عشر سنوات على أن يحسن توجيه هذه الموازنة للمدارس والجامعات والمعاهد فى المناطق الريفية وإعطاء مخصصات أكبر للمحليات. ومع وجوب تحديد حد أدنى لمخصصات مؤسسات التعليم إلا أن هذه المخصصات يجب أن تزداد للمؤسسات التى تظهر مؤشرات لجودة التعليم بها.

ثانيا: إيجاد وتعزيز مصادر بديلة للتمويل التقليدى: وتشمل طرح سندات أو أذون خزانة بمسمى «تمويل التعليم» وذلك بأسعار فائدة متميزة ولآجال طويلة. كما يمكن تحصيل رسم رمزى على بعض المعاملات الحكومية لصالح الهدف نفسه. ويمكن تبنى تطوير صندوق تطوير التعليم كآلية لتلقى المساعدات المالية فى هذا الشأن. كما تطرح نماذج جديدة للتبرع من رموز المجتمع والطبقة الوسطى والميسورة التى استفادت من مجانية تعليم الدولة.

ثالثا: تشجيع القطاع الخاص على الاستثمار والمشاركة فى التمويل: ويكون ذلك من خلال التوسع فى إنشاء المدارس والجامعات الخاصة والجامعات غير الهادفة للربح بمعايير جودة منذ بدايتها. كما يتم تشجيع أنماط المشاركة مع القطاع الخاص فى بناء المؤسسات ثم تأجيرها للدولة أو توفير البنية التحتية أو التجهيزات اللازمة، خاصة فى الريف. ويجب وضع أهداف رقمية ذات آليات واضحة لجمع التبرعات والهبات، نظير تسمية المنشآت أو أجزاء منها بأسماء متبرعيها. إن رؤيتنا أن يستوعب القطاع الخاصة نسبة 20% من التلاميذ فى التعليم قبل الجامعى، شاملا أشكال التعليم التعاونى أو الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص.. برؤية واضحة للدولة لضمان الجودة والهوية الوطنية. أما بخصوص تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية فمن المحتم والواجب على الدولة وضع بذور نظم تمويل الطلاب حتى لا تضع أعباء على الأسر، إذا توفر لأبنائهم القدرة الذهنية والرغبة فى التعليم، حال اختيارهم وأن يكون ذلك ضمن تلك النسبة التى يستوعبها القطاع الخاص.

رابعا: الاعتماد على البحث العلمى والأنشطة المجتمعية كمصادر تمويلية: حيث تحدد كل مؤسسة هدفا ونسبة تمويلية تسعى إلى تحقيقها من خلال هذه الأنشطة، بما يتناسب مع دورها ورسالتها. وتشمل هذه الأنشطة الأبحاث والاستشارات وأعمال الترجمة والنشر وغيرها. كما تشمل تسويقاً لمنتجات التعليم الفنى بمدارسه ومعاهده والبرمجيات بأنواعها، فضلا عن الخدمات المجتمعية من دورات تدريبية أو منح شهادات أو استغلال مقنن لإمكانيات المؤسسة من قاعات ومعامل وأجهزة.

خامسا: إصلاح هيكل وأنظمة الإدارة المالية فى مؤسسات التعليم: وذلك للتغلب على المعوقات الإدارية للإنفاق أو لاستقبال التبرعات والمساهمات وتذليل عوائق الصرف والطرح والمناقصات. وهى سياسة تهدف إلى تحقيق اللامركزية وتسعى لتحقيق قدر من الاستقلالية فى إدارتها المالية وفقا لحاجتها. وقد يتطلب هذا الإصلاح بعض التعديلات التشريعية المحدودة وبعض التعديلات الإجرائية.

سادسا: تسويق المنتج التعليمى المصرى بالخارج: ويكون ذلك من خلال إنشاء مدارس وأفرع للجامعات المصرية بالخارج تمثل فيها رافدا لاجتذاب الطلبة والدارسين، على أن يوضع تصور وخريطة للأماكن والتخصصات التى تحظى فيها مؤسساتنا بميزة نسبية. ويتم انتهاج هذه السياسة بالتنسيق مع الجهات المعنية بما فيها سفاراتنا بالخارج وبما يتسق مع سياسات البعثات وبرامج التبادل الطلابى. ولنا رؤية فى تشجيع الطلبة الوافدين والاستفادة من مصروفاتهم لدعم التعليم، لكن يجب أن تتوفر البنية التحتية، وارتفاع مستوى التعليم، على أن يكون مرئيا ومفهوما فى إطار معايير التعليم العالمية.. فليست هناك خصوصية فى معايير التعليم إلا فيما يخص اللغة العربية، والتاريخ وما تحتويه المناهج من دمج قيمة الوطن فى وجدان الأطفال والشباب.

سابعا: حسن توجيه المساعدات الدولية فى التعليم: وذلك من خلال وضع أولويات للمنح والمساعدات الدولية بحيث تنبع من احتياجات المجتمع وسوق العمل لتضييق الفجوات التمويلية. ونوصى بأن تراجع خريطة المنح الخارجية والاتفاقات الدولية لتشجيع الاستثمارات الخارجية فى التعليم وعقد اتفاقيات جديدة تخدم هذا الغرض وتبادر بشراكات جديدة وتعزز دور مصر فى المنطقة.

ثامنا: ترشيد الإنفاق فى مؤسسات التعليم: وذلك من خلال حسن التنسيق ومنع ازدواجية الطلبات وتقليل الهادر وترسيخ مفاهيم تكرار الاستخدام وإعادة التدوير. كما نوصى بإجراء مراجعة للفاقد فى المواد واستهلاك الخدمات، على أن ُتشجع مؤسسات التعليم الراشدة بأن يقابل التوفير الحادث بها بزيادة فى موازناتها يتم توجيهها لأغراض أخرى تخدم رسالتها.

تاسعا: التوسع فى أنماط التعلم غير التقليدية: ويكون ذلك من خلال التوسع الموضوعى فى أنماط التعلم الحديثة نسبيا مثل التعلم عن بعد والاستفادة –بقدر محسوب- من الوسائل والمساعدات التعليمية التكنولوجية منخفضة التكاليف والتى لا تحتاج إلى تكاليف تشغيل وصيانة مرتفعة أو لمساحات كبيرة. وذلك يساهم أيضا فى زيادة عدد المتعلمين وترسيخ مفاهيم التعليم المستمر.

إن مسؤولية الدولة عن التعليم هى الأساس، وتنويع مصادر التمويل قد يكون بديلا جوهريا فى التعليم العالى، إلا أن التعليم المدرسى سيظل معتمدا على موازنة الدولة بالدرجة الأولى، المسؤولة دستوريا عن الإنفاق عليه. ولاشك أن زيادة مساحة استيعاب القطاع الخاص المنضبط بقواعد حاكمة تحقق له وللمجتمع الفائدة، لـ20% من الطلاب، بأنواع المدارس المختلفة كما هو وارد فى الطرح، الذى سيتيح للدولة تركيز الإنفاق من المتاح، الواجب زيادته، على مدارس المجتمع المملوكة له بشكل أفضل، يتيح جودة أعلى للخدمة التعليمية.

ولعل التحدى الأكبر فى إدارة التعليم قبل الجامعى، بمن يحتاجه من القوى البشرية المؤهلة فقط، هو تحد مجتمعى يحتاج للمناقشة.. فإننى أرى أن نسبة كبيرة من الإنفاق على العاملين فى وزارة التربية والتعليم، يجب أن تكون مسؤولية وزارة التضامن الاجتماعى وليس وزارة التعليم.. فهى إعانات لغير القادرين وليست تعويضا عن عمل يمس جوهر التعليم.

إن الحقيقة المرة أن هناك مساحة واسعة لترشيد الإنفاق المتاح، رغم ضآلته النسبية، تحتاج إلى إرادة سياسية مؤيدة من المجتمع إن كان التعليم هو الأولوية الحقيقية كما يقول المجتمع.

أما التعليم العالى، فموارده متعددة فعلا، إذا حصلت مؤسساته على حريتها الأكاديمية، واستقلالها الإدارى واتبعت سياسات التطوير كما ذكرناها. الحقيقة أن مؤسسات التعليم العالى هى الفرصة وليست المحنة التى تواجهنا.

 وعلينا مقابلة هذا التحدى برؤية خارج الشكل التقليدى القائم. إننى أسعى لوجوب الإعلان الحقيقى عن موازنات التعليم العالى المخصصة لكل طالب فى كل جامعة ومعهد، وعلينا أن نقبل أن زيادة موارد التعليم العالى يجب أن يشارك فيها الطلاب بنسبة ما، على ألا يكون ذلك أخذا من موازنة التعليم العالى بل إضافة إليها، بحيث يتلازم التزام الدولة بزيادة موازنتها للتعليم العالى مع مشاركة الطلاب.

 وحتى يمكن تحقيق العدالة فإن الطلاب غير القادرين على سداد هذه النسبة، يجب على الدولة إنشاء مؤسسات تمويل لهم تقوم بمساندتهم للحصول على هذا التمويل الجزئى على أن يتم استرداده بعد تخرجهم وتوظيفهم بالشكل الذى لا يمثل عبئاً عليهم فى المستقبل، والتجارب العالمية فى ذلك متاحة للدراسة قبل التطبيق.

بذلك اكتمل استعراضى لتحدى عدم ملاءمة الموازنات المخصصة للتعليم، وفى المقال المقبل سأنتقل إلى تحد آخر، تحد لا يقل أهمية عن تحدى التمويل، بل إنه التحدى الإنسانى الأهم فى منظومة التعليم وهو تنمية مهنة التدريس ورفع كفاءة المعلمين والقوة البشرية فى التعليم.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية