كُتب هذا المقال قبل يومين من الخبر المشؤوم..
«حينما يسود الحب ينهزم الموت.. فهنيئاً لمن منح الحب لكل قلب جائع إلى الحب.. ليعى البشر أنهم إن أرادوا الحياة فليفسحوا فى قلوبهم مجرى لنهر من الحب».
كنت أتفادى هذا الفيلم بشتى الطرق.. إن رأيته مصادفة يُعرض على إحدى القنوات أسرعت لتغيير المحطة قبل أن أتسمر أمام الشاشة، وإن شاهده أحد أمامى أترك الغرفة فوراً.. تفاديته لأننى أحبه.
كان تأثيره واضحاً على طفولتى.. كرهت القطار وكرهت زكى رستم وحفلات رأس السنة.
قبل يومين شاهدت فيلم «نهر الحب» لأول مرة منذ سنين طويلة، تصورت أن مشاهدته بعد كل هذه السنوات ستغير رأيى فيه، فلابد أنه فيلم ميلودرامى.. مجرد نسخة مصرية فاقعة من «آنا كارينينا»، وأكيد لن يؤثر فى فتاة فى منتصف العشرينيات مثلما أثر فى طفلة عمرها ١١ عاماً.
ثم بكيت.. بكيت وانهرت لساعات متواصلة حزناً على موت خالد وانتحار نوال حين ألقت بنفسها تحت عجلات القطار، تماماً مثلما صدمنى الفيلم وأبكانى فى طفولتى.
واكتشفت أن المعالجة المصرية لرواية تولستوى أفضل من معالجة الفيلم الهوليوودى مائة مرة، وكانت فاتن أعظم من جريتا جاربو.
وأنا أشاهد مشهد القطار تصحبه موسيقى أندريا رايدر.. تذكرت كيف أن وجود فاتن وعمر على قيد الحياة حتى وإن توارت فاتن عن الأنظار، حتى وإن شاب عمر، يشعرنى بالارتياح أن ذلك الزمن لم ينته.. أتشبث بهما لأنهما آخر قشة تربطنى بعالم الأبيض والأسود، وسرحت فى ذلك اليوم المشؤوم الذى سنودع فيه أحدهما.. لا أستبعد أبداً أن أطب ساكتة فى مكانى إن فقدت فاتن أو عمر.. فهما من عَلَّمانى الرومانسية حتى وإن اختفت من حياتى وحياتهما، فمجرد تذكرهما يفسح فى قلبى مجرى لنهر من الحب.
أنا مريضة بالنوستالجيا فى حالتها المتطورة.. وكل من يعرفنى يعلم عنى ذلك، بالتحديد نوستالجيا الخمسينيات والستينيات.
أنا مريضة وفقدت الأمل فى البحث عن علاج.. وأنا لست وحدى، كثير من أبناء جيلى يعانون من نفس المرض.
نحن أجيال لديها حنين لزمن لم نعاصره، لماضٍ لم نعشه.. وتلك هى المأساة.
تعبير «موضة النوستالجيا» تردد كثيراً على مسمعى فى الفترة الأخيرة.. فالعودة إلى الماضى تحاصرنا فى كل مكان، فى عروض الأزياء، فى الفن، فى الإعلانات، فى مسلسلات مثل «ماد مِن»، فى موقع «تامبلر»، فى الهوس بكل ما هو، وفى فلاتر «إنستجرام».vintage. ربما لا يدرك من أطلق هذا التعبير أن النوستالجيا مرض مستحدث، أبعاده أكبر بكثير مما نتصور، وإن كانت موضة.. فهى موضة باقية.
هذا المرض النفسى لم تعانِ منه أى أجيال أخرى منذ بدء الخليقة، ذلك لأنهم لم يعاصروا توابع لعنة السينما.
السينما فى البداية كانت فكرة عظيمة ومبهرة، تماماً مثل أى اختراع أو دواء جديد لا نريد التفكير فى أعراضه الجانبية.
السينما كصورة متحركة مصحوبة بالصوت توثق قصصاً من زمن لم نعشه.. تستحوذ على أرواح ومشاعر كل من ظهروا فيها، وتحبسها فى شرائط ٣٥ ملم.
السينما استحوذت على روحى فاتن وعمر فى صباهما وأوقعتنا فى حبهما.. فى دموع وصوت فاتن، فى نظرات عمر.
لم تشعر أى أجيال من قبل بهذا التعلق الروحى بالأجيال التى سبقتها.. ربما سمعت جدتى عن قصص من أوائل القرن العشرين أو قرأت عن الأجيال الماضية فى الكتب ورأت بعض الصور أو سمعت موسيقاها لكنها لم تعانِ معاناتى ومعاناة أمى، فهى لم تتعلق أبداً بالماضى مثلنا، ولم تتعذب بمشاهدة الأغراب الذين أحببناهم يرحلون عن عالمنا.
لم تبكِ جدتى كما بكيت أنا وأمى بحرقة على سعاد حسنى وكأننا فقدنا واحدة من بقية أهلنا.. لم تبكِ على رشدى ورمزى وأحمد مظهر.
ماض لا يموت.. لا هى جدران معابد لتمحى ولا هى كتب لتحرق.. كنا نحنط الجثث لنحتفظ بهم أحياء والآن نصور الأحياء ليبقوا معنا بعد مماتهم.
ربما خُلقنا بذاكرة ضعيفة رحمة لنا من هذا العذاب.. رحمة لنا من التعلق بالموتى وحياتهم.. كى ننساهم.
السينما ذاكرة البشرية ولعنتها.. لعنة جميلة.. هى بوابة خلود لكثير ممن رحلوا، وهى لعنة للأحياء وللأجيال القادمة الذين لا يفوّتون لحظة دون توثيقها بصورة وفيديو على الموبايل.. كلها كما السينما مادة نوستالجيا للمستقبل، نوستالجيا لأجيال قادمة من زمن مختلف ستعانى معاناتنا.. ستفقدنا وتفتقدنا واحداً تلو الآخر.