x

د. محمد نور فرحات يكتب: المسكوت عنه فى حديث مستقبل الرئاسة فى مصر

الجمعة 04-09-2009 23:00 |

من أبرز الخدع السياسية التى تروج بين المصريين عند تقييمهم لحكامهم قولهم إن هذا الحاكم كان من الرجال الصالحين وإنما يرجع سوء عمله إلى حاشية السوء المحيطة به التى دفعته لذلك دفعا.

قال المصريون هذا القول المخادع عن الملك فاروق وعن جمال عبدالناصر وعمن لحقهما وسبقهما من ذوى السلطان الأكبر.

وينسى المصريون بهذا القول أنهم يصورون حكامهم كما لو كانوا معدومى الإرادة تتحكم فيهم عصابات من الأشرار المحيطة بهم وهم بلا حول ولا طول وهو تصوير سلبى لا نرضاه للحكام أو المحكومين على حد سواء.

خطر هذا المعنى بذهنى وأنا أطالع مقال الأستاذ مجدى الجلاد فى المصرى اليوم بتاريخ 9 أغسطس سنة 2009 بعنوان (رجال جمال مبارك) يعيب فيه على نجل الرئيس وأمين السياسات بالحزب الحاكم أنه يحيط نفسه (بالمنتفعين الفاسدين الذين حققوا ثروات ضخمة ومنافع شخصية باستغلال النفوذ واقترابهم الفعلى والوهمى من جمال شخصيا).

والسؤال المحورى الحاكم للنقاش هو: هل كان يمكن أن تكون لجمال مبارك حاشية غير الحاشية وأن يكون هو غير ما هو عليه، وهل كان يمكن لمبارك الأب أن يكون شيئا مختلفا لو كانت حاشيته قد اختلفت؟ وهل كان يقدر لفاروق الملك ولعبدالناصر الرئيس أن تتغير مسارات سياستهما لو أنهما أحاطا نفسيهما بحاشية مختلفة؟

يبدو لى السؤال غير مشروع لأنه يضع العربة أمام الحصان، فسياسات الحاكم أو المسؤول هى التى تصنع الحاشية التى تسهم بدورها فى دعم هذه السياسات وليس العكس. وسؤال آخر: هل يمكن أن تجتذب السلطة التى لا تحمل مشروعا فكريا وطنيا يلهب حماس الناس له ويجعلهم يلتفون حوله- هل من الممكن أن تجتذب هذه السلطة غير هؤلاء الذين يخطبون ود السلطة لذاتها من الفاسدين ونهازى الفرص والمغامرين والمتاجرين بقوت الشعب والمثقفين المنافقين؟

لقد تشكلت حول نظام يوليو منذ قيامه نخبة تعمل من أجله سواء من المؤمنين بأهدافه وهم كثر أو من المتسلقين على جدرانه، وكان للتحول الاشتراكى الذى سلكه عبدالناصر رجاله من المؤمنين به أو من المتسلقين على جدرانه، وعندما جاء السادات ورفع شعارات الديمقراطية وسيادة القانون واقتصاد السوق كان له رجاله من المؤمنين به ومن المتسلقين على جدرانه، وعندما خلفه مبارك بعد حادث المنصة المأساوى ورفع شعارات النقاء والطهارة والمصالحة الوطنية كان له رجاله من المؤمنين به ومن المتسلقين على جدرانه،

أما عندما بدأت إرهاصات ما يسمى بالتوريث فلم يبق فى الساحة السياسية الرسمية من مجموعات ما يسمى بالفكر الجديد إلا المتسلقون على الجدران وخلت هذه الساحة من المؤمنين لسبب بسيط هو عدم وجود ما يؤمنون به.

ويبدو أنه قد تحلقت حول مبارك الابن ضمن الجماعة المحيطة به مجموعات من رجال الأعمال الذين أثروا على حساب الشعب، ومن المحتكرين والمغامرين والباحثين عن الكسب السريع بأى وسيلة. كما تجمع حوله أيضا نفر من المثقفين الذين يجيدون فن المناورة والخداع الفكرى بصياغات ترضى أهواء الحاكم أى حاكم. وهى هنا صياغات تبرر التوريث أحيانا وتنفيه أحيانا أخرى ولا تستبعده بل تحبذه فى كثير من الأحايين وتيسر أمامه السبل القانونية والتشريعية فى جميع الأحوال.

منذ ثمانى سنوات تحديدا وقضية التوريث تلح على الخطاب السياسى المصرى سواء على المستوى الرسمى أو غير الرسمى، على مستوى الحكومة وحزبها (الوطنى الديمقراطى) أو على مستوى أحزاب المعارضة أو على مستوى القوى المحجوبة عن الشرعية أو على مستوى جماعات الاحتجاج الجديدة أو حتى على مستوى أحاديث المقاهى والمنتديات سياسية كانت أم غير سياسية.

بدأ الحديث همسا عن التوريث منذ عاد الابن من عمله البنكى بالخارج وأخذ يخطو بحذر نحو العمل الاجتماعى العام بدءا من الانخراط فى جمعية المستقبل حتى المجلس المصرى الأمريكى. كانت رياح التوريث تهب على المنطقة فى سياقات مختلفة لا شأن لمصر بها ولا تتوفر شروطها فى مصر، إما تحقيقا لتوازنات طائفية وإما لإحكام الغطاء على ممارسات الفساد.

ورغم أن الدولة ومؤسساتها كانت تفتح الأبواب على مصراعيها لمبارك الابن للاستفادة من إمكانياتها (مثلما فعلت جامعة القاهرة عندما خصصت مبنى كاملا داخلها لجمعية المستقبل) إلا أن الأمر حينئذ كان مقبولا من المصريين، على مضض ما دام محصورا فى حدود ممارسة العائلة الرئاسية للعمل الاجتماعى وهى الممارسة التى خط نهجها الرئيس السادات وحرمه ولم تكن معروفة فى مصر قبل ذلك.

ولكن بات واضحا للمراقب بشكل تدريجى وبمرور الزمن أن الأمر بالنسبة لمبارك الابن ليس مجرد نزوع نحو الانخراط فى العمل الاجتماعى العام ولكنه طموح سياسى بدأ يتبلور وينمو بالتدريج حتى أصبح اليوم شاخصا للعيان رغم الصياغات الملتوية التى يحاول رموز الحكم أن يتجنبوا بها مصارحة الشعب.

عندما كان نشاط مبارك الابن مقصورا على العمل الاحتماعى والعمل الحزبى المحدود، دعانى الأستاذ مكرم محمد أحمد رئيس تحرير مجلة المصور وقتئذ للمشاركة فى حوار نشر لاحقا فى المجلة مع السيد جمال مبارك.

شارك فى الحوار الذى عقد بدار الهلال عدد من صحفيى المجلة وكتابها الخارجيين وكنت منهم. تطرق حديث مبارك الابن إلى مسألة تحديث الحزب الوطنى وتطرق أكثر إلى بعض التفصيلات الحزبية التى لا تهم المواطن العادى فى قليل أو كثير.

طلبت الكلمة وعرضت اقتراحى بتطوير الحزب الوطنى بأن يتخلى الرئيس عن رئاسته ويتركه للمنافسة الحرة مع القوى والأحزاب السياسية. فالمنافسة هى التى تصنع الأحزاب السياسية الحقيقية. بدا لو كان مبارك الابن قد فوجئ تماما بحديثى ونظر إلى قائلا:

هل تعرف ماذا يمكن أن يحدث للبلد لو أخذنا باقتراحك، قلت: ستستقيم الحياة السياسية فى مصر. وأيقنت أن مبارك الابن يتبنى وجهة نظر الأب الرئيس والتى أفصح عنها أكثر من مرة عن ضرورة وجود حزب قوى يحكم مصر.

ولكن السؤال الجوهرى غير المطروح يتعلق بمصدر قوة الحزب، هل يستمد الحزب قوته من رأس السلطة أم يستمد رأس السلطة قوته من الحزب؟ هل تتبع المؤسسة الشخص أم يتبع الشخص المؤسسة؟ ظلت هذه النوعية من الأسئلة بلا إجابات حتى الآن.

أيقنت وقتئذ أننا أمام مرحلة مختلفة نوعيا من مراحل العمل العام لجمال مبارك. مرحلة يحكمها طموحه السياسى نحو سدة الحكم. وقد كان. تم اصطناع أمانة جديدة فى الحزب الحاكم تسمى أمانة السياسات حشد فيها المشتاقون والساعون إلى التحصن برضاء السلطان والمتوهمون عبثا إمكانية الإصلاح من الداخل، ثم انتخب مبارك الابن أمينا عاما مساعدا للحزب، ثم جرى تعديل الدستور ليصبح مرشح الحزب الوطنى هو المرشح الوحيد الجدير بالفوز،

ثم جرى انتخاب الابن عضوا بالهيئة العليا للحزب وهى الخطوة قبل النهائية وفقا لنص مادة الدستور المشينة التى جرى إقحامها باسم الديمقراطية (المادة 76) ثم أصبح «جمال» يمارس صراحة دورا سياسيا وتنفيذيا يخرج عن إطار عمله الحزبى، بل أصبح يظهر فى وسائل الإعلام الأجنبية باعتباره رئيس مصر المتوقع وتفاصيل القصة معروفة للجميع.

ما يهمنا أن نتوقف عنده الآن هو تحليل الخطاب السياسى الرسمى المتعلق بالتوريث ورصد التطورات التى لحقت به لندرك حجم مخططات وتدابير القصور التى تحاك فى ردهات الحزب الحاكم بعيدا عن أعين الشعب.

فى البداية كانت تصريحات الرئيس مبارك قاطعة فى نفى التوريث، فمصر على حد قوله ليست سوريا وليست كأى بلد عربى آخر يدور فيه حديث التوريث.

ودور الابن كما يقول الرئيس لا يخرج عن مساعدة الأب مثلما تساعد ابنة الرئيس ميتران والدها. ورغم أن الحالتين مختلفتان لأن عمل ابنة ميتران لم يخرج عن كونها سكرتيرة لوالدها ترتب له أوراقه وملفاته أما مبارك الابن فيمارس السياسة من أوسع أبوابها بل ويرأس لجنة تصنع سياسات الحزب الحاكم أى سياسات الدولة، رغم كل ذلك فقد قوبلت تصريحات الرئيس حول نفى النية للتوريث بارتياح بالغ فى الشارع المصرى.

ثم تغيرت اللهجة تدريجيا وحل محل النفى الصريح لإمكانية تولى الابن الرئاسة القول بأن أمر الرئاسة المقبلة مرجعه إلى إرادة الشعب لأن مصر دولة مؤسسات (بصرف النظر عن كون هذه المؤسسات كلها تقع فى قبضة حزب واحد أو شخص وبصرف النظر عن كون إرادة الشعب يتم تزويرها عن عمد).

على أن أكثر تصريحات الرئيس خطورة وانعطافا عن تصريحاته السابقة ما أدلى به مؤخرا للصحفى الأمريكى «تشارلى روز» بمناسبة زيارة الرئيس الأخيرة للولايات المتحدة. قال الرئيس إن ابنه لم يفاتحه فى أمر رغبته فى الترشح للرئاسة!!!.

وأنه أى الرئيس غير معنى الآن بهذا الأمر لأن ما يشغله هو تنفيذ برنامجه الانتخابى. وأنه لا يوافق على العبارة التى تتعرض لعلاقة الجيش بمرشح الرئاسة القادم، ثم استدرك قائلا: ولكن الأمور قد تتغير فى المستقبل.

ورغم أن هذه التصريحات لم تجب إجابة جازمة عن أى سؤال إلا أنها كما ذكرنا تمثل انعطافا خطيرا فى التصريحات الرئاسية المتعلقة بمستقبل الرئاسة فى مصر وذلك لما يلى:

أنها لم تؤكد أن الرئيس مبارك الأب سيرشح نفسه فى انتخابات الرئاسة القادمة.

2- أنها لم تنف أن مبارك الابن سيرشح نفسه فى هذه الانتخابات (عكس التصريحات المبكرة).

3- أنها أحالت الأمر كله إلى القواعد القانونية والدستورية القادمة ودور المؤسسات (والكل يعرف أننا فى بلد تتوحد فيه إرادة الحاكم مع قواعد القانون والدستور وأن المؤسسات تدور فى فلك رجل واحد) .

4- أن هذه التصريحات وإن رفضت شكلا تناول مسألة العلاقة بين الجيش وانتخابات الرئاسة إلا أنها عادت ونوهت بأن الأمور يمكن أن تتغير فى المستقبل، ومفهوم أن التغير سيكون فى اتجاه أن يتولى شخص مدنى حكم البلاد.

وهكذا تكشف هذه التصريحات أن وراء الأكمة ما وراءها وأن الاستعدادات تجرى على قدم وساق للترتيب لشىء ما فى غيبة الشعب والرأى العام ومؤسسات المجتمع، إننا نساق مغمضى العيون إلى مصير لا نعلمه يحاك فى الكتمان. وباتت أكثر مقدرات الأمة خطرا يجرى الإعداد لها فى الغرف المغلقة. وكأن مقولة أحمد عرابى (لقد خلقنا الله أحرارا ولم يخلقنا تراثا وعقارا) قد سقطت إلى الأبد فأصبحنا نورث دون إرادتنا.

وبعيدا عن محاولات المعبرين عن وجهة نظر الحكم صرف النظر عن مخطط التوريث والتهرب من مناقشته مناقشة جدية صريحة فثمة حجج روجتها الصفوة المحيطة بالابن يمكن اعتبارها بمثابة الإطار النظرى للتوريث ويمكن إجمالها فيما يلى:

1- أن مصر دولة مؤسسات يحكمها الدستور والقانون وأنه عندما يحين الحين سيجرى تفعيل النصوص الدستورية والقانونية المعنية وسيجرى انتقال السلطة فى سلاسة.

2- أن مبارك الابن هو مواطن مصرى له ما للمصريين من حقوق وعليه ما عليهم من واجبات، وأنه لا يجوز حرمانه من حقه الدستورى فى الترشح للرئاسة لمجرد كونه ابن الرئيس (هنا يجرى الاستشهاد بحالة جورج بوش الابن وراجيف غاندى).

3- أن من شأن انتخاب مبارك الابن للرئاسة خلفا لأبيه أن يحدث انعطافا فى النظام السياسى المصرى باعتباره أول رئيس مدنى لا يخرج من عباءة المؤسسة العسكرية وهذا يعد الخروج الأول عن تقاليد نظام يوليو.

4- أن مبارك الابن هو المرشح الوحيد الذى من شأنه أن يحبط مشروع الدولة الدينية الذى يروج له الإخوان المسلمون، فهو الرئيس المقبل الذى سيضمن لمصر مدنيتها وسيضمن تفعيل مبدأ المواطنة المنصوص عليه فى المادة الأولى من الدستور.

ويبدو أن التلويح بورقة المواطنة والأخطار التى تتهددها هو الذى وقف وراء التأييد الذى أعلنته القيادات القبطية الأرثوذوكسية مؤخرا لانتخاب جمال مبارك بصرف النظر عما سيحدثه هذا الانتخاب من آثار تاريخية بالغة الخطورة على النظام السياسى المصرى.

أما عن الحجة الأولى التى تقول إن مصر دولة القانون والدستور والمؤسسات فهى حجة أشعر عند ترديدها باستخفاف بالغ بعقلى وعقل المصريين. وأعجب كيف وصلت الاستهانة بعقول الناس إلى ترديد مثل هذه الحجة.

نعم مصر بها دستور يحدد كيفية اختيار الرئيس، ولكنه دستور طوع بنان الحزب الوطنى ورئيس الحزب الوطنى ومرشح الحزب الوطنى يجرى تعديله ما بين غمضة عين وانتباهتها لتحقيق طموحات وتوجهات صاحب السلطان فى مصر. نعم مصر بها مؤسسات ولكنها مؤسسات تخضع تماما لتحكم الحزب ورئيس الحزب وطموحات مرشح الحزب، والأمثلة على الخنوع البرلمانى لرئاسة السلطة التنفيذية وحزبها حاضرة فى أذهان المصريين جميعا عبر عشرات من الأمثلة.

ألم يجر تعديل المادة السادسة والسبعين من الدستور مرتين فى عامين لضمان أن تأخذ انتخابات الرئاسة شكلا تعدديا كاذبا لا ينجح فيه إلا مرشح الحزب الحاكم؟ دعونا إذن من هذه الحجة التى لا تنطلى على طفل يلهو فى طرقات حى شعبى من الأحياء الفقيرة فى مصر.

أما كون مبارك الابن مواطنا مصريا يتمتع بكافة حقوق المواطنة ويجب ألا يضار من كونه ابنا لرئيس الجمهورية بحرمانه فهذا قول ظاهره حق وباطنه باطل. إنه الوجه الأول من العملة،

أما االوجه الآخر فهو أن مبارك الابن وأى ابن آخر لأى حاكم يجب فى عرف الأخلاق والدين والقانون والديموقراطية ألا يستفيد من كونه ابنا للرئيس للحصول على مزايا سياسية غير متوافرة لغيره وإلا عصفنا بمبدأ المساواة أمام القانون وضربنا مبدأ المواطنة فى مقتل.

والسؤال الآن الذى لا يريد أحد من أهل الحكم الإجابة عليه رغم كونه السؤال المحورى والجوهرى والحاكم فى المناقشة هو: لو لم يكن جمال مبارك ابنا للرئيس الحالى، هل كان بوسعه أن يصبح رئيسا للجنة السياسات بالحزب الحاكم ثم أمينا عاما مساعدا للحزب ثم عضوا بالهيئة العليا له ثم مرشحا مضمرا للرئاسة؟.

الإجابة لكل ذى بصر بالنفى. إذن فنحن أمام حالة من حالات الإخلال الصارخ بمبدأ المساواة. ولو كان لمبارك الابن طموح سياسى يريد أن يحققه بطريقة مشروعة فلينتظر حتى يتساوى بغيره من المواطنين فى مركزه الفعلى عندما تنتهى مدة ولاية والده فى الرئاسة دون تجديد ثم ليتقدم ببرنامجه إلى شعب مصر الذى لا يستحق أن يورث كما يورث العقار، وأن يكون تقدمه ببرنامجه فى ظل رئاسة رئيس آخر وفى ظل نظام دستورى وقانونى يوفر الفرص المتساوية للجميع فعلا لا قولا. عندئذ وعندئذ فقط نستطيع أن نتحدث عن الحقوق الدستورية المتساوية للمواطنين.

أما عن مسألة الخيار بين الرئاسة المدنية والعسكرية أو بين الدولة المدنية والدولة الدينية فلا أحسب أن الخيار الوحيد للدولة المدنية ذات الرئاسة المدنية سيتحقق فقط بانتخاب مبارك الابن رئيسا للبلاد.

فهل لابد أن يكون ثمن الولاء لمدنية الدولة العصف بقيم الديمقراطية وبمبدأ المساواة أمام القانون؟ وهل ضاقت الخيارات بيننا بحيث لابد أن نختار بين الاستبداد المدنى أو الاستبداد الدينى؟ أم أن البحث عن البديل الديمقراطى الحق هو واجب الشعوب الرشيدة؟

وإننى لأعجب أشد العجب من موقف بعض القيادات الكنسية فى مصر بتأييد انتخاب جمال مبارك لأنه الوحيد فى نظرهم الذى سيضمن مدنية الدولة. والرد على ذلك بالتالى؛

أولا: أن الكنيسة ليست معبرا عن الرأى السياسى للأقباط لسبب بسيط وهو أن الأقباط شأنهم شأن المسلمين ليسوا فريقا سياسيا واحدا. وثانيا: أن من شأن تدخل الكنيسة وتدخل الأزهر فى ترجيح مرشح رئاسى على الآخر أن يكسب انتخابات الرئاسة بعدا طائفيا مما سيؤدى إلى العصف بالمواطنة ويجعل القرار السياسى رهنا بالقرار الدينى على عكس ما نصت عليه المادة الأولى من الدستور.

فلتدع الكنيسة الأمر برمته لأهل السياسة دون الدخول فى حسابات ضيقة قصيرة النظر تتم بالتنسيق مع بعض دوائر الحزب الوطنى. فهذا لعب بالنار قد لا ينجو منه أحد وقد يأتى بعكس ما هو مطلوب منه.

وتعالوا نتصارح: إذا كان للأقباط مشاكل متعلقة بمبدأ المساواة أمام القانون فكيف يكون حل هذه المشاكل عن طريق الإجهاز على مبدأ المساواة أمام القانون فى أمر جلل هو مستقبل الرئاسة فى مصر؟

وأليست سياسات الحزب الوطنى منذ السبعينيات هى المسؤولة عن بعض مظاهر معاناة الأقباط؟ وهل الانصياع وراء نزوات هذا الحزب من شأنه أن يحل هذه المشاكل؟

ولكن يبدو أن أمر مستقبل الرئاسة فى مصر يجرى تناوله لدى كافة القوى السياسية بهذا القدر من الخفة وقصر النظر الذى اتسم به موقف بعض قيادات الكنيسة. يبدو أن الإخوان المسلمين على استعداد للتسامح مع التوريث مقابل بعض المكاسب السياسية.

وقد لا يختلف عن ذلك إلا فى الدرجة موقف أحزابنا. وهكذا تقف النخبة المصرية موقفا شائنا من أخطر أمر يواجهه الوطن فى تاريخه الحديث. والظن أن مخطط التوريث سيتم دون مقاومة إن لم تحدث صحوة حقيقية. ولكن الخطورة تأتى بعد التوريث وانتقال السلطة من الأب إلى الابن.

فسيأتى لمصر حاكم يستمد شرعيته بأكملها من قرابة الدم وحدها وليس له رصيد وطنى عند أهل مصر ولا مشروع سياسى يلتف حوله الناس.

فهو ليس بالحاكم الثائر أو صاحب شعارات الديمقراطية ولا يملك كأبيه سجلا من البطولات العسكرية. والقوى الاجتماعية التى تحيط بالحاكم الجديد وفقا لما هو معروف لنا حتى الآن تضم بين ظهرانيها أكثر المجموعات توحشا فى طلب الثروة ونهما للثراء. فلنتصور معا قدر ما تسعفنا القدرة على الاستبصار مستقبل مصر وحكم مصر فى ظل هذه المعطيات.

إننى أدعو إلى أن يبادر الحزب الوطنى (إن كان قادرا على ذلك وأظنه غير قادر أو راغب) إلى فتح جميع ملفات التوريث ومناقشة كافة أطروحاته مع القوى الحية فى الشعب المصرى.

عليهم أن يقولوا لنا بوضوح شديد وبصراحة شديدة لماذا يريدون أن يأتوا بجمال مبارك رئيسا لمصر خلفا لوالده. وما هى الرؤية السياسية التى تقف وراء ذلك إن كانت هناك رؤية على الإطلاق أكثر من كونه ابنا للرئيس. وكفانا تذرعا بنصوص القانون والدستور التى هى طوع بنان حكامنا ودعونا نناقش أمرا واحدا: لماذا جمال مبارك؟ وفيما يفضل غيره من المصريين؟

وماذا هو فاعل بمصر وبنا؟ وكيف يمكن أن نكفل تكافؤ الفرص بين كل المرشحين لمنصب الرئيس؟ فقد خلقنا الله أحرارا ولم يخلقنا تراثا وعقارا (أحمد عرابى).

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية