71 عاما قضاها خيرى شلبى بين المهمشين من عمال التراحيل وسكان المقابر وأصحاب الحرف المختلفة لينتج مشروعا أدبيا خاصا ومميزا على مدار حياته، لايزال يتمتع بحيويته المعهودة واهتمامه الدائم بكل الظواهر المحيطة به فى الواقع المصرى، جلس بجلبابه الصيفى فى مكتبه بين كتبه وأوراقه التى شرع يكتب فيها شيئا ومن حوله 3 صور ليحيى حقى ومحفوظ وصلاح جاهين، طرحت سؤالى الأول فأشار لى أن أنتظر حتى ينتهى من متابعة حوار «ممدوح حمزة» مع «خيرى رمضان» فى برنامج «البيت بيتك»، وعلق «أصل الراجل ده شاغلنى شوية»، وبمجرد أن انتهى الحوار تبدل سؤالى الأول له «ولماذا يشغلك ممدوح حمزة؟»، فأجاب «أصله نموذج لشخصية روائية.. فيها مقومات البطل الشعبى المفتقد فى مصر» ومن هنا بدأ الحوار التالى..
■ وهل البطل الشعبى مفتقد حاليا فى مصر؟
- خلال رحلتى الأدبية أحاول رصد دائما الشخصيات المفقودة داخل الضمير المصرى والمعبرة عنه، فطوال التاريخ المصرى تبزغ بعض الشخصيات التى تكتسب شعبية خاصة من إحساس المواطن أن هذا الرجل معبر عما لا يجرؤون على التعبير عنه، وهذا البطل الشعبى هو صانع الوجدان المصرى المعارض، وهو ما يثرى وجدان القومية العربية ولا يتعارض معه.
■ هل ترى أن اهتمامنا بعروبتنا لم يفقدنا جزءاً كبيراً من تقدمنا.. وأن الاهتمام بمصريتنا – كما يقال- هو الخلاص الوحيد؟
- القوميات فى العالم كله مكونة من مجموعة وطنيات، وكلما تعددت تلك الثقافات فى داخل القومية الواحدة كان ذلك دليل قوة هذا النظام، مثال ذلك الهند، فالسياسى الذى يخوض انتخابات فى الهند مطلوب منه مجهود كبير فى مخاطبة طوائف ولغات متعددة، والقومية العربية تحديدا أكثر القوميات قابلية للازدهار لأن قوامها الثقافى واحد، وتمتد جذوره داخل كل أقطاره العربية، ورغم تعدد الثقافات فى البلاد العربية فإن القومية العربية استطاعت أن تهضمها وتخلق منها خصوصية ثقافية وفكرية توَّجها نزول القرآن بها، والثقافة العربية قامت على أنقاض الثقافة المصرية القديمة.
■ وهل ازداد احتياجنا للبطل الشعبى فى الوقت الراهن أكثر من السنوات السابقة؟
- الحاجة للبطل أصبحت شديدة الإلحاح، ولهذا يكتسب بعض الناس شهرة لقيامهم بسلوك عادى فى ظروف سيئة، فننظر لتلك السلوكيات العادية على أنها بطولة مفتقدة، مثلما فعل أبوتريكة عندما أحرز هدفا ورفع فانلته متضامنا مع غزة.
■ وهل الموقف هنا بطولى بسبب غزة أم لأنه غازل وترا دينيا عند الشعب؟
- لا، الموقف بطولى لأنه وطنى وليس دينيا، رغم أن هناك خلطاً، فالدين ركب على السياسة، فالدين منذ نحو 70 عاما مع نشأة الإخوان المسلمين يحاول سرقة السياسة واحتواءها لتصبح كهنوتا لا يصلح الحديث فيها، وبالتالى تكتسب السياسة هذا الكهنوت، ومساوئ هذا التيار أن الدين اختلط بالسياسة لدى العامة وبعض المثقفين، وهو نتاج النشاط الدينى غير الرشيد، ففى السابق فى العصور المتقدمة، كان لرجال الدين مواقف سياسية، وكانت مواقف عظيمة لأنهم حين كانوا يتخذون تلك المواقف كانوا يتحدثون بلغة السياسة وليسوا كرجال دين، مثل العز بن عبد السلام والإمام الليثى.
إنما أن يركب الدين على السياسة ويحكمنا مرشد كصورة ممسوخة من الخليفة، بعد أن أثبت التاريخ بما لا يدع مجالاً للبحث أن هذا النظام فاشل وأن ما لله لله وما للبشر للبشر، فالبشر يحكمون أنفسهم بما يرونه متوائماً مع واقعهم وما يحقق مصالحهم الدنيوية، ولا سبيل للنهوض بمصر من تلك الكبوة التى تعانى منها إلا بفصل الدين عن الدولة.
■ وكيف يمكن أن يتحقق ذلك فى ظل المد الدينى؟
- هو لابد أن يتحقق إن عاجلا أو آجلا، ولسوف يتحقق وسيكون فيه «الدم للركب»، وأتوقع أن يكون هذا السيناريو داميا، فالساسة المتأسلمون سعيدون بجذب أكبر عدد من الشباب بالترهيب من النار والترغيب فى الجنة، لكنهم لا يعلمون أن تلك القوة المتمثلة بالشباب ستكون سبب إخفاقهم لأنهم يربون متلقين فحسب، والمتلقى لا يمكن أن يشارك فى نهضة أمة.
■ وهل استغل التيار الدينى سيطرة الحزب الوطنى الحاكم لفترة طويلة فى الترويج لفكرة أنهم البديل الأفضل أو أنهم أحسن الوحشيين؟
ـ حكومة الحزب الوطنى أسهمت بقدر كبير جدا فى توسيع رقعة هذه الفوضى الدينية لأنها تزايد على الإخوان المسلمين، فالشارع يحكمه الإخوان بالفعل، فكل يوم هناك قضية حسبة ضد عمل أدبى أو فيلم سينمائى أو فكرة معينة، ثم إن القنوات التابعة للحكومة تأخذ شكلا دينيا ساذجا لا يستطيع الرد، كذلك الدعاة والوعاظ الذين انتشروا بصورة متضخمة لا يمكن قبولها.
■ بما أنك متابع جيد.. ماذا وجدت فى دراستك لظاهرة الدعاة الجدد؟
- كلهم ممثلون، لهم تطلعات طبقية كبيرة جدا، ويحلمون بالمرسيدس والبدل الإيطالية، وشكلهم ومظهرهم مبالغ فيه، وقدرتهم على التدفق فى الكلام غير مدروسة، وتأثيره وقتى بما داخل هذا الكلام من لمعات، ووراءه كتب التراث الصفراء المليئة بالمدخولات والخرافات، والكارثة الأكبر أن كل الفضائيات أصبحت تتبارى فى البرنامج الدينى أو الدعوى فأصبحت منابر للفتاوى المغلوطة، ولا يوجد فضائية مصرية ملتزمة دينية دون أن تكون منبرا كلاميا أجوف.
■ وهل تبحث عن هذا البطل الشعبى فى عملك الروائى الجديد؟
- بالتأكيد، ففى أغلب أعمالى بحثت عن صورة الزعامة المصرية مثلما فعلت فى رواية «العراوى» عن الزعيم الحافى، فالتربة المصرية وفية، فإذا زرعت قمحاً لابد أن يخرج قمحا، حتى وإن سقيته بمياه المجارى، وهو نفس الموقف الذى تفعله الأرض مع الشخصيات، فالزعيم ممكن أن يخرج وسط هذا النظام السيئ.
■ وهل يمكن أن يصنع النظام بطلا شعبيا من داخله بالترويج لمشاريع كبيرة مثل مشروع القرى المصرية الأكثر فقرا؟
- حدثت محاولات فى التاريخ المصرى كثيرة وفشلت، فالبطل لا تصنعه الدعاية وإنما تصنعه الأفعال، والمصرى الجائع يمكن أن يرضخ لمن يمد له لقمة لكنه لن يحبه أو يحترمه، والمثل الشعبى يقول « قالوا للكنيسة أسلمى قالت وماله بس اللى فى القلب فى القلب»، ودلالة هذا المثل سياسية أكثر منها دينية.
وبالمثل فى كل أصعدة المجتمع فنجمة السينما مهما تبناها منتج ودفع بها وقام بتلميعها إعلاميا لن تنال قبول المشاهد إلا برضاه حتى وإن ظلت نجمة لفترة طويلة، وإنما يعطى المواطن التقدير الحقيقى لممثل مثل عبد المنعم إبراهيم رغم أنه البطل الثانى.
■ وما الدور الذى يمكن أن يلعبه البطل الشعبى فى ظل الزخم السياسى المتمثل فى انتخابات 2011؟
- من الممكن أن يكون له دور لأننا لن نخلقه من عدم، فهو موجود بالفعل لكنه موجود تحت الركام، والتاريخ المصرى ملىء مثلما فعل فؤاد نجم والشيخ إمام، لكن فى الفترة الأخيرة انطمس البطل الشعبى منذ نحو 10 سنوات، ولم يعد هناك أسلوب للتنفيس إلا من خلال الجماعات الإسلامية.
■ 71 عاما عشتها فى مصر.. كيف تراها سياسيا؟
- أعترف بأننى مع جيلى خدعت فى ثورة يوليو، فقد خدرتنا الثورة، ورغم وجود شواهد تدل على قدوم النكسة فإننا تغاضينا عنها، وبحدوث النكسة ظهرت مساوئ الثورة الحقيقية، وثورة عبد الناصر دمرت كرامة المواطن وأضعفت روح المواطنة، ولولا أن الشعب المصرى أصيل ومرتبط بالأرض لماتت الوطنية إلى الأبد، وفى رأيى أن ثورة يوليو عطلت مصر، وزرعت فيها الجبن، فبعض الشباب ممن كنت أعرفهم كان يكتب تقارير فى آبائهم وأعمامهم، ولدينا موروث من الكوارث تحتاج لجيلين على الأقل لتسترد عافيتها.
■ عشت حياتك مع المهمشين وعمال التراحيل فى مصر.. كيف تأثرت بتلك الفترة؟
- أثرت فى أنهم كانوا شخصيات رواياتى ثم تحولوا بفعل السياسة الحالية من مجرد طبقة إلى أغلبية الشعب المصرى، فلا دعم ولا مياه ولا صرف صحى، فكان لابد أن يعيشوا بطريقتهم فى العشوائيات، فسكان العشوائيات هم أبناء الشعب المصرى وكان ممكن أن يخرج منهم زويل جديد، وأنه لولا انحدارهم من سلالة أصيلة وحضارية من الفلاحين لكانت القاهرة أشبه بشيكاغو، ولم نكن لنستطيع السير فى الطرقات ليلا.
■ وماذا عن تجربتك مع المقابر؟
- أنا أسير لحب المكان وهو بطل أعمالى، وحدث ذلك لى عندما تعطلت سيارتى فى منطقة قايتباى وجاءنى سمكرى من داخل المقابر ليصلحها، فأسرنى المكان وازدادت علاقتى بالمكان فأصبحت أذهب إليه يوميا، وأتضح لى أن سبب حبى له أننى حين كنت طفلا كنت أذهب إلى جدتى فى مدينة «فوة» وهى مدينة مبنية بالحجارة وبها 366 مسجدا بعدد أيام السنة، وما ربطنى بالمقابر هو ذكريات هذا المكان القديم.
■ وكيف استطعت أن تقيم داخل المقابر؟ وولد إبداعك من رحم الموت؟
- هذه هى سنة الحياة، فالموت هو مقدمة الحياة وهو الحقيقة الوحيدة فيها، كما أنه غير وارد فى هذا المكان، وأصبح شعورا بالشجن فى الخلفية البعيدة نتيجة الإحساس بالفقد، فمثل هذا الإحساس مخصب، فالمجتمع داخل المقبرة أصبح أكبر من فكرة الموت، فالأطفال يلعبون فوق المقبرة مع أسرهم الذين يزيدون على 10 أفراد، ويتكاثرون أيضا فوق هذا الموت الممدد أسفل منهم، وأصبح له مردود إيجابى، عندما تعلم أن فلاناً مدفون بجانبك تشعر أن الحياة قصيرة، وتحاول أن تفعل بعض الأفعال المهمة قبل الموت، ووجودك مع الموتى أو وجودهم معك يجعلك تفكر بصورة أكثر صفاء بألا تكون خسيسا أو نذلا.
■ ولماذا يسيطر الهم العام كثيرا على خيرى شلبى؟
- لأن ارتباطى الأدبى بالشارع كبير جدا، فأنا أرى أناساً لم يأكلوا اللحم منذ سنوات، وما يحمله الشعب المصرى من هموم أكبر من هذه الحكومة، فمصر تحتاج إلى حكومة سياسية حقيقية، لإعادة النظر فى التعليم وكفالة حياة كريمة وتوفير فرص عمل.