x

وحيد عبد المجيد فى فلسفة ثورة 25 يناير.. وخصائصها الأربع وحيد عبد المجيد الثلاثاء 27-01-2015 20:42


كانت الثورة الفرنسية 1789 هى الأولى فى سلسلة ثورات شعبية تحررية تلقائية تعاقبت فى العالم على مدى قرنين وربع قرن. وتُعد ثورة 25 يناير إحدى أهم حلقات الجيل السادس من هذه الثورات، التى اندلعت دون قيادة تخطط لها وتوجهها. وأهم ما يجمع بين الثورات من هذا النوع هو مسارها المتعرج الذى يمتد لفترة طويلة من الزمن عبر خطوات إلى الأمام وأخرى إلى الوراء، وفى ظل صراع شديد بين الثورة والقوى المضادة لها.

ويقول لنا التاريخ إن هذه الثورات تنتصر فى النهاية على القوى المضادة لها، حتى إذا بدا الأمر غير ذلك فى البداية. وهى تنتصر عادة بالنقاط وليس بضربة قاضية. وهذا هو أهم ما يفصل بين الثورات الشعبية التحررية مثل ثورة 25 يناير من ناحية، والانقلابات العسكرية التى قد يتحول بعضها إلى ثورات، والثورات العقائدية والأيديولوجية التى يقودها تنظيم قوى حديدى من ناحية أخرى.

وإذا لجأنا إلى الاستدلال التاريخى لفهم التعقيد والالتباس اللذين يحيطان ثورة 25 يناير فى ذكراها الرابعة، يمكن أن نستعيد ما كانت فيه فرنسا بعد أربع سنوات على ثورتها، أى فى 18 يوليو 1793، لنقارن ونستوعب الدروس دون إغفال كل أوجه الاختلاف.

كان الملك لويس السادس عشر الذى اندلعت الثورة ضد نظامه مازال قابضاً على العرش، وقادراً على المناورة فى ظل صراع مهول بين الثورة وأعدائها من ناحية، وبين بعض القوى الثورية نفسها من ناحية أخرى. وكانت وثيقة حقوق الإنسان والمواطن، الصادرة فى 26 أغسطس 1789 (بعد شهر واحد من الثورة) حبراً على ورق، وكذلك دستور 1791 الذى نقل فرنسا– على الورق أيضاً– من الملكية المطلقة الطاغية إلى ملكية دستورية.

كان الالتباس طاغيا فى يوليو 1893، قبل عامين على إنجاز أول خطوة إلى الأمام على الأرض- وليس على الورق- وهى إعلان الجمهورية الأولى، التى انهارت بسرعة فى خطوة ارتدادية كبيرة (ثورة مضادة) أعادت الملكية مرة أخرى. وظل الصراع سجالاً فى مسار متعرج استمر لفترة طويلة إلى أن حققت الثورة أهدافها فى الحرية والمساواة والمواطنة والكرامة الإنسانية.

وهذا هو المسار العام الذى سلكته مختلف الثورات الشعبية التحررية بكل ما بينها من اختلاف فى الظروف والتفاصيل. ولا تخرج ثورة 25 يناير عن هذا السياق، لأنها حلقة فى سلسلة الثورات الشعبية التحررية. ولذلك فهى تتسم بخصائص أربع رئيسية مرتبطة بطابعها هذا.

فهى– أولاً– فعل استثنائى يلجأ إليه الشعب نتيجة غلق كل أبواب الإصلاح، وبسبب إصرار نظام الحكم على إنكار واقع ينضح بأن التغيير بات مسألة حياة أو موت لمجتمع تعرض لتجريف شامل. فلا تندلع الثورة إلا حين يعم اليأس من الإصلاح، وهذا هو ما حدث فى 25 يناير والأيام التالية له.

وثورة 25 يناير– ثانياً– هى رد فعل شعبى على تراكم المشاكل والأزمات المترتبة على سياسات نظام خنق المجتمع، وخرَّب اقتصاده لمصلحة شبكة مصالح نهبت البلاد والعباد، ونشر فيه الفساد من أعلى إلى أسفل، وخلق بالتالى عوائق هائلة أمام التغيير الذى تستهدفه هذه الثورة. ويقول لنا التاريخ، هنا، إن التغيير عن طريق الثورة أصعب وأشق وأكثر تكلفة منه حين يحدث عبر الإصلاح التدريجى.

ومن خصائص ثورة 25 يناير– ثالثاً– طابعها العفوى الذى يحكمه قانون «التراكم الكمى والتحول النوعى»، فهى تمثل تتويجاً غير مقصود ولا متوقع لسلسلة احتجاجات شعبية توسعت على مدى ست سنوات، ونهلت من خزائن الظالم المتزايدة، فلم يكن ما حدث فى 25 يناير 2011 فى بدايته إلا حلقة فى تلك السلسلة، قبل أن يتبين أن تراكم الاحتجاجات بلغ المبلغ الذى يتيح تحولاً نوعياً (من الاحتجاج إلى الثورة).

وهذا التحول العفوى غير المخطط يحدد الخصيصة الرابعة للثورة، وهى أن مقدماتها لا تسمح بتوقعها. وقد أثبتت ثورة 25 يناير مجدداً أن الصورة التى تظهر على سطح المجتمع المحكوم بقبضة من حديد تكون خادعة، لأنها تخفى حالة اختمار على الطريقة البركانية فى طبقات عميقة اجتماعية وسياسية من وجدان الشعب.

ومؤدى هذه الخصائص الأربع للثورة أن الناس لا يعرفون أنها هى الثورة إلا وهم فى قلبها، ولذلك فعندما اندلعت ثورة 25 يناير لم يكن أحد مستعداً بخطة لليوم التالى لها، الأمر الذى أدى إلى ارتباك واضطراب فى مسارها الذى مازال فى بدايته.

وفى هذا المسار، لا تنتصر الثورة لمجرد أنها قطعت خطوة إلى الأمام، كما أنها لا تُهزم حين تُعاد خطوة، أو حتى خطوات، إلى الوراء، ففى كل خطوة، سواء تقدمية أو ارتدادية، دروس وخبرات، فمعضلة ثورة 25 يناير، كغيرها، تكمن فى التناقض الذاتى الكامن فى بنيتها، لأن الوعى الذى يقترن بها يصطدم بالاضطراب المجتمعى الضرورى الذى يترتب عليها، فمن شأن هذا الاضطراب أن يخلق الالتباس الغالب الآن فى الذكرى الرابعة للثورة، وينطوى الالتباس بطابعه على تشوش واختلاط فى الأوراق كما فى المواقف، على نحو يعَّطل عملية تراكم الوعى واستكمالها.

ولذلك تُعد معركة الوعى هى الأكثر تأثيراً فى تحديد المدى الزمنى اللازم لتحقيق أهداف الثورة، فيرتبط هذا المدى بقدرة القوى الحية فى المجتمع على استكمال الوعى الجنينى الذى أتاح اندلاع الثورة، ومقاومة الحملات المضادة التى لا تتوقف سعياً إلى مسخ ما يكتسبه الناس من وعى.

غير أنه رغم كل ما تملكه القوى المضادة للثورة فى هذا المجال، فهى تستطيع عرقلة عملية استكمال الوعى العام لبعض الوقت وليس طوال الوقت. ورغم أن مسخ الوعى أسهل من نشره، تظل تفاعلات الواقع المعيش أقوى أثراً من الصور والرسائل الإعلامية التى تعتمد عليها القوى المضادة للثورة.

ورغم أن خطر الإرهاب يُمكّن آلة طمس الوعى من العمل بلا هوادة، ويبدو بمثابة ضمان لفاعليتها، إلا أن اعتمادها المتزايد عليه يُمثّل نقطة ضعف فيها. فالحالة التى تعتمد عليها هذه الآلة لا تختلف فى جوهرها، وإن اختلفت فى كثير من تفاصيلها، عن تلك التى رُفع فى ظلها شعار (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة)، ثم تبين بعد سنوات أن ارتفاع الأصوات الحرة فى المجتمع هو السبيل إلى كسب تلك المعركة (فى حرب 1973 المجيدة). وينطبق ذلك على أى معركة، ولذلك ربما يقترن الانتصار فى معركة الإرهاب الراهنة بالتقدم نحو تحقيق أهداف الثورة، وإحباط القوى المضادة لها بشقيها، فهناك قوى مضادة تسببت سياسات النظام الذى تحلم بإعادة إنتاجه فى خلق البيئة المنتجة للإرهاب، وثمة قوى مضادة أخرى تدعم الممارسات الإرهابية وهى تحلم باستعادة السلطة بعد أن أسقطها الشعب.

وإذا كان الالتباس السائد اليوم يدفع إلى التشكك فى إمكان تحقيق أهداف الثورة، ويؤدى إلى تشاؤم كثير ممن لامست أحلامهم السماء يوم 11 فبراير 2011، فهذا لأنها مازالت فى مرحلة مبكرة من مسارها الطويل ضمن حركة التاريخ التى تفيد بأن هذه الأهداف ستتحقق فى النهاية، حتى إذا بدا الأمر غير ذلك فى البداية.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية