أثناء الانتفاضة الشعبية التونسية، التى بدأت شرارتها من بلدة بوزيدى، فى الجنوب التونسى، قبل شهر من وصولها إلى تونس العاصمة، ظلت الأنظمة العربية تُراقب فى صمت، كما لو كانت تلك الانتفاضة تحدث فى كوكب آخر.
ثم حينما اشتدت الانتفاضة، وتحولت إلى «ثورة»، ظلت مُعظم الأنظمة مُتحفظة، إلى أن فتح الله على المُتحدث الرسمى المصرى بتصريح فحواه «إننا نحترم اختيارات الشعب التونسى». وتلقفت بقية الأنظمة العربية هذه الإبداعة المصرية الرائدة، فردّدتها بلا كَلل أو مَلَل، خلال الأيام التالية.. طبعاً، لم تقل أى من هذه الحكومات إن ما تقصده فعلاً، هو خيارات الحكومات وليس خيارات الشعوب!
وحينما أشاد الاتحاد الأوروبى بشجاعة الشعب التونسى، ودعّم مُطالبته «بالديمقراطية»، وبانتخابات حُرة، تحت إشراف دولى، اهتزت أعصاب تلك الأنظمة، وانبرى وزير خارجية مصر (أحمد أبوالغيط)، فى «ثورة رسمية»، مُحذراً «القوى الخارجية»، خاصة الاتحاد الأوروبى من التدخل فى شؤون تونس «المصرى اليوم» (١٩/١/٢٠١١). وحذا حذوه مُتحدثون رسميون عرب آخرون!
طبعاً.. لم يدع أى من هؤلاء الرسميين العرب إلى احترام خيارات «شعوبهم هم».. فقط خيارات الشعب التونسى!
والحقيقة طبعاً، أنهم فى قرارة أنفسهم لا يحترمون أى خيارات لأى شعب، لا للتونسيين، ولا لشعوبهم. بل إن أحدهم، لم يستطع أن يُخفى مكنون نفسه، وهو الأخ زعيم الثورة الليبية، مُعمّر القذافى، الذى ظلّ يحكم ليبيا مُنفرداً طوال الأربعين عاماً الماضية. لقد انبرى الزعيم يعظ ويُحاضر الشعب التونسى، حول فضيلتى «الصبر والاعتراف بالجميل».
فيقول الحاكم الليبى للشعب التونسى: ماذا كان يضيركم أيها التوانسة، أن تصبروا ثلاث سنوات أخرى، إلى أن تنتهى الفترة الرئاسية الرابعة لزين العابدين بن على، لتصوتوا بـ«لا» إن أردتم.
طبعاً.. ما لم يقله الواعظ الليبى أنه هو نفسه (أى مُعمّر القذافى) لم يُنتخب ولا مرة، وأنه وصل للسُلطة فى ليبيا، بانقلاب عسكرى، فى أول سبتمبر ١٩٦٩، مع مجموعة من زُملائه الضُباط. ثم تخلص من هؤلاء الزُملاء، واحداً بعد الآخر، وانفرد هو وعائلته بالسُلطة، بعد أن نفوا الملك عبدالله السنوسى، الذى قاد نضال الشعب الليبى ضد مُستعمريه الإيطاليين، ثم ضد مُستعمريه البريطانيين، حتى حصلت ليبيا على استقلالها، عام ١٩٥٤- أى أن الملك المُجاهد، الذى كان قد تعرّض للسجن والنفى، قُبيل الاستقلال، حكم بلاده، لمدة خمسة عشر عاماً فقط (١٩٥٤-١٩٦٩). بل إن الملك السنوسى، حتى خلال تلك السنوات الخمس عشرة، حكم «كملك دستورى»، حرص فيها على أن تكون الملكية فى ليبيا، مثل بريطانيا- أى يملك فيها رأس الدولة، ولكنه لا يحكم- أى أن يترك السُلطة التنفيذية لحكومة مُنتخبة ديمقراطياً. فشتّان ما بين «ملكية» المُجاهد عبدالله السنوسى «وجماهيرية» الانقلاب الاستيلائى.
وإذا كان المثل العربى يقول إن «الطيور على أشكالها تقع»، فإن الأخ العقيد الليبى، الذى استولى على السُلطة فى بلاده، كان يُغنّى على «ليلاه»، حينما قرّع الشعب التونسى على استعجاله فى التخلص من «زين العابدين بن على»، بعد ٢٣ سنة من اغتصابه السُلطة فى تونس، فلسان حاله فى الواقع كان يُخاطب الشعب الليبى، مُحذراً إياه، من ألاّ يفقد صبره، ويتعجل فى طلب التغيير، فالرجل (القذافى) لم يمكث فى السُلطة، إلا ٤٢ عاماً فقط، هى ثلثا تاريخ ليبيا المُستقلة.
طبعاً يضيق المكان هنا باستعراض مُغالطات الزعيم الليبى، ولا ألوان وصنوف استبداده بشعبه، وفتكه بمُعارضيه. وكانت إحدى مُغالطاته، قراره بأن «تترك ليبيا العالم العربى، وتولى وجهها شطر أفريقيا فقط!» وقتها (١٩٨٩)، انزعج المُثقفون العروبيون، من فقد وطنهم العربى الكبير، أحد بُلدانه الواحد والعشرين. فسارعوا إلى زيارة ليبيا، والرجاء من الزعيم الليبى بأن يعود عن قراره. وتحداهم الزعيم الليبى بأن يُساجله أى منهم لإقناعه بخطأ قراره، أو إقناعهم بصحة قراره.
وتردد هؤلاء المُثقفون فى قبول التحدى، ومواجهة، القذافى فى سجال علنى فى ليبيا، وكان سبب هذا التردد هو أن أحد القيادات الروحية اللبنانية، وهو الإمام موسى الصدر، كان قد ذهب إلى ليبيا فى زيارة رسمية، قابل فيها الزعيم الليبى، وبعد أن ودّعه المسؤولون الليبيون، «وغادر» عاصمتهم، فإنه لم يصل، لا إلى بيروت ولا لأى مكان آخر.
كانت قناة الجزيرة الشهيرة، وأحد نجومها الصاعدين، وهو فيصل القاسم، الذى كان قد بدأ وقتها يُقدم برنامجه الأشهر، وهو «الاتجاه المُعاكس»، هما الأكثر مُثابرة وإلحاحاً، فى أن يُرتبا معى ومع الزعيم الليبى سجالاً تليفزيونياً، لمدة ساعة، باستخدام الأقمار الصناعية، لى من القاهرة، ولمُعمّر القذافى من طرابلس، وشاهده ملايين العرب من المُحيط إلى الخليج على الهواء مُباشرة.
وفى هذا السجال أعاد القذافى ترديد أسباب نيته إدارة ظهره للعرب والعروبة، وأهمها أن العرب لا يُقدّرون قيمة قيادته العملاقة، وتضحياته للعرب والعروبة حق قدرها.
وكان ردى عليه هو الآتى:
أولاً: السؤال الأكثر مُناسبة هو: «ماذا فعلت أنت يا أخ مُعمّر للعرب والعروبة، لكى يردّوا الجميل..؟ هل حاربت مع مصر فى أى من حروبها الثلاث ضد إسرائيل، منذ وصولك إلى السُلطة..؟ هل حاربت مع الفلسطينيين أو اللبنانيين أو السوريين ضد إسرائيل..؟ وثانياً: هل حاربت مع العراقيين ضد إيران، أو مع الصوماليين ضد إثيوبيا..؟ هل بنيت جامعة واحدة، أو مدرسة واحدة، أو مستشفى واحداً فى أى بلد عربى، خارج ليبيا..؟
لم يكن الزعيم الليبى يجد إجابة، فظلّ صامتاً، ينظر إلى سقف خيمته المُزركشة.. وقد أخبرنى بعض ممن حضروا قمة اليوم الواحد فى شرم الشيخ (١٩/١/٢٠١١)، بأن مُعمّر القذافى أرسل وفداً من مئتى عضو و(نفس الخيمة)، قبل موعد وصوله، وظلّ الوفد ينتظره فى المطار، ثم فى قاعة المؤتمر، ولكن الرجل لم يحضر.. فهل خاف أن يترك «خيمته الذهبية»، ويترك ليبيا، حتى لا يحدث فى ليبيا، ما حدث فى تونس..؟
.. الله أعلم