منذ حوالى أسبوعين نشرت وسائل الإعلام الدولية صورا لبيل جيتس، مؤسس شركة ميكروسوفت للكمبيوتر وأغنى رجل فى العالم، وهو يقف أمام ماكينة جديدة لمعالجة الصرف الصحى، ويشرب كوبا من الماء النقى يخرج منها. القصة بدأت منذ ما يقرب من عامين، عندما قرر جيتس- مخترع نظام الويندوز فى الكمبيوتر- أن يشجع المخترعات التى تتعامل مع المشكلة التى يعانى منها أكثر من 2.5 مليون إنسان فى العالم، وهى عدم توافر الصرف الصحى.
أطلقت مؤسسته الخيرية مشروعا «لإعادة اختراع التواليت» وأعلنت مساندتها المالية للاختراع الجديد بشرط توافر عدة معايير به، منها ألا يحتاج لبنية تحية أو مواسير أو خطوط كهرباء أو نظام لتصريف المياه، وأن يستطيع التخلص ذاتيا من الفضلات أو تحويلها لمواد مفيدة مثل السماد، وأن تكون تكلفته منخفضة بحيث يسهل نشره فى الدول النامية. ووفر جيتس تمويلا لعدد من الجامعات لابتكار هذا الاختراع، وفى أكتوبر 2013 أعلنت مؤسسته عن مشروع مماثل بالتعاون مع وزارة العلوم والتكنولوجيا فى الهند، وعقد فى مارس الماضى معرضا لمخترعات التواليت الجديد فى نيودلهى، وأعلنت الهند منذ أسبوع البدء فى تنفيذ مشروع ضخم لبناء ونشر هذه المراحيض الجديدة بالتعاون مع مؤسسة جيتس (الهند بها 640 مليون شخص لا يحصلون على صرف صحى)، وطلب رئيس الوزراء الهندى من الشركات الكبرى ببلاده أن تتبرع بنسبة 2% من أرباحها لهذا المشروع.
هناك أكثر من مغزى لهذه القصة.
المغزى الأول يتعلق بقدرة العلم والتكنولوجيا على توفير حلول مبتكرة للعديد من المشاكل التى تعانى منها الدول النامية بدلا من الحلول التقليدية التى تستخدم.
المغزى الثانى يتعلق بمشكلة الصرف الصحى فى مصر، وهى مشكلة ضخمة. وبالرغم من النجاح فى مد مياه الشرب والكهرباء لمعظم أنحاء مصر فى عهد الرئيس السابق مبارك وهذا من إنجازاته، إلا أن مشكلة الصرف الصحى ظلت مستعصية على الحل بسبب نقص التمويل، نتيجة لذلك فإن 85% من قرى مصر غير مغطاة بالصرف الصحى، وأعلن وزير الإسكان منذ أيام أن وزارته تحتاج 100 مليار جنيه لحل أزمة الصرف الصحى بالقرى، إلا أن ميزانية وزارته لا تتعدى 8 مليارات سنويا، والأمر يحتاج وحده إلى 12 مليارا سنويا للانتهاء من المشكلة خلال 8 سنوات. وقد وافق البنك الدولى على قرض لمصر بقيمة مليار دولار للمساهمة فى حل المشكلة فى 7 محافظات بالدلتا، وهناك تمويل إماراتى لمشروع آخر فى 9 قرى.
ولكن السؤال هو لماذا لا تتبنى مصر أفكارا غير تقليدية للتعامل مع مشكلة الصرف الصحى بدلا من المشاريع الضخمة والمكلفة، على الأقل فى الأمد القصير وحتى توافر التمويل، ولماذا لا تتعاون مع مؤسسة بيل جيتس فى هذا الصدد، ولماذا لا نتعلم من التجربة الهندية فى هذا الشأن.
المغزى الثالث لقصة بيل جيتس يتعلق بالمسؤولية الاجتماعية لرأس المال الخاص، الرجل تجاوز إحساسه بمسؤوليته حدود بلده، وأصبح يمول المشاريع التى تخدم التنمية فى العالم الثالث، فى حين أن العديد من رجال الأعمال لدينا مشغولون بإنفاق فائضهم المالى فى مشاريع شكلية وزائفة بدلا من تشجيع الابتكار الحقيقى لحل مشاكل وطنهم.