ما يجرى فى اليمن، هو فصلٌ صغيرٌ فى كتاب كبير، افتتحه وكتب مقدمته الرئيس الأمريكى الأسبق جورج دبليو بوش، بغزو أولى العواصم العربية، وبإسقاط أول النظم العربية، فى مارس 2003م، وبعد ذلك بعام واحد، أعلنت أمريكا خُطة «الفوضى الخلاقة»، لتحريك الأوضاع الداخلية فى العالم العربى، بما يخلق قوة جديدة، وتفاعلات جديدة، تتولى- ذاتياً- غزو باقى العواصم، وإسقاط باقى الأنظمة، تمهيداً لتفكيك الدول، وتسييح الخرائط، ثم إعادة رسمها على نحو جديد، فى إطار الشرق الأوسط الجديد، أى الشرق الأوسط الأمريكى، الذى يختلف- فى توزيع أوزان القوى فى داخله- عن ذاك الشرق الأوسط القديم الذى رسمه الأوروبيون على مدى الحقبة الاستعمارية التى لم تكن أمريكا حاضرةً فيها، ولا شاهدةً عليها.
نعم: حسين الحوثى 2004م، ثم خليفته الحالى عبدالملك الحوثى، هما الترجمة الداخلية، من جورج بوش الابن. هما الأدوات الجديدة فى تنفيذ المشروع الأمريكى الأكبر فى الإقليم. وهما- حتى هذه اللحظة- تطبيق ناجح فى حدود اليمن.
سؤال: ما الذى جرى فى العراق 2003 م وما الذى يجرى فى اليمن 2015 م؟!
جواب: الذى يجرى هو هندسة سياسية واحدة، ففى العراق تم تسليمه- مبدئياً- للشيعة الإثنى عشرية، مع تهميش السنة، مع إحياء النزعات الاستقلالية- بالتدريج- عند الأكراد، مع إعطاء عامل الزمن فرصته ليعيد ترتيب أوزان جميع القوى على نحو جديد، سوف تظهر ملامحه بمرور الزمن. ومن خلال الشيعة الإثنى عشرية- فى العراق- فتح الأمريكان أسوار هذا البلد الكبير ليدخل طوعاً فى دائرة النفوذ الإقليمى لإيران.
وفى اليمن، وفى عشر سنوات، من ظهور حسين الحوثى فى «صعدة» 2004 م إلى سيطرة عبدالملك الحوثى على «صنعاء» فى سبتمبر 2014 م، نجحت خطة الفوضى الخلاقة فى تسليم اليمن- بأعصاب أمريكية وغربية هادئة- إلى الشيعة الزيدية، وهم فى أحسن الأحوال ثلث سكان اليمن، وإن كان مذهبهم، مذهب الإمام الأعظم زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب، هو من أقرب مذاهب آل البيت إلى مذاهب أهل السنة، حيث يسود المذهب الشافعى فى اليمن، بما يصلُ إلى ثلثى عدد المسلمين فيه، وهم- أى المسلمين عموماً- الأغلبية الساحقة مع أقلية يهودية وأخرى مسيحية.
كانت نقطة الانطلاق، فى قرار الأمريكان، تسليم العراق للشيعة، وفتحه للنفوذ الإيرانى 2003 م. ومع انطلاق مخطط الفوضى الخلاقة 2004 م، بدأ الحوثيون فى الظهور، ومن خلفهم إيران، وتوفر لهم التمويل والتسليح، فى بلد يعزُّ فيه الحصول على الرغيف، ودخلوا فى قتال متواصل مع نظام الرئيس السابق على عبدالله صالح، وهو نظام أوتوقراطى وفاسد وبلغ فى تحالفه مع الأمريكان حدود الانبطاح المهين حتى زهدوا فيه بعدما امتصوه واعتصروه وابتذلوه إلى حدود الشبع المُمِل، مثلما هى عادة الأمريكان مع كل الطغاة التابعين لهم، وقد قرر الأمريكان- قبل عشر سنوات- الاستغناء عن خدمات كل هؤلاء الطغاة التابعين، مرّة واحدة، واكتفوا بتقديم النموذج العملى بإسقاط النموذج الأسوأ- صدام حسين- وتركوا للفوضى الخلاقة، ثم لثورات الربيع العربى، أن تستكمل المهمة على روقان وبمزاج عال، ودون أن يعيد الأمريكان طريقة التدخل المكلفة التى جرت فى العراق. وفى تقدير الأمريكان، فإن هذه الهندسة السياسية الكبرى هى عمل تاريخى ممتد ويتوقعون له أن يستغرق ثلاثة عقود قادمة، بعدها يكون الشرق الأوسط- بخرائطه وأنظمته ودوله وشعوبه- قد اختلف بالكلية عما هو عليه الآن.
خطورةُ- بمعنى أهمية- ما يجرى فى صنعاء، يستمد قيمته من عدة حقائق:
الأولى: أن أمريكا- ومعها الغرب- قد تقلق على عملية الولادة الجديدة للدولة فى اليمن، ولكنها لا تقلق من عقد قرانها على الحوثى، وهى على يقين أن الولادة لن تكون قيصرية، حتى لو تعثرت قليلاً، وذلك لعدة أسباب:
السبب الأول: أن الغرب رمى بورقة الرئيس الحالى عبدربه هادى منصور، فى الوقت ذاته الذى رمى فيه ورقة سلفه الأخطر على عبدالله صالح، يوم منحوا «توكل كرمان» جائزة نوبل، وأشعلوا من تحته الأرض، حتى أرغموه على الخروج من مهنة الرقص فوق رؤوس الثعابين التى احترفها- من مقعد الرئاسة- عدة عقود. ولم يكن المجىء بالرئيس الحالى إلا مثل الطريقة التعاقدية التى تم بها إخراج الرئيس السابق خطوات تدريجية تسوق اليمن نحو التحول الجديد، نحو الحقبة الحوثية.
السبب الثانى: أن التنظيم الحوثى- مثله مثل تنظيم حزب الله- تأسس على قواعد، ويتوفر على تمويل وتسليح، ولديه قاعدة مذهبية، واستطاع أن يمارس جميع أعمال الحرب والسياسة والدعاية والإعلام والتفاوض والحرب النفسية، فهو- بهذا المعنى- شبه دولة وجاهز أكثر من غيره- داخل اليمن- ليكون هو الدولة.
السبب الثالث: أن الفساد العريض- الذى هو من سمات كل الأنظمة الاستبدادية التى حكمت فى ظل التبعية للأمريكان- أكسب الحوثيين تأييد قطاعات لا يستهان بها من الشعب اليمنى، خاصة الطبقات المتحررة من الالتزام القبلى، والمحرومة من مغانم السلطة.
السبب الرابع: أن قلق الأمريكان والغرب من الحوثيين أقل بكثير جداً جداً، إذا قورن بقلقهم من: ضعف وفساد وترهل بقايا نظام على عبدالله صالح، ثم هو أقل بكثير جداً جداً من قلقهم، بل من عداوتهم، بل من حربهم مع تنظيم القاعدة فى اليمن، وهو أحد أشكال التطرف السنى، وهو المسؤول عن الكثير من أعمال الإرهاب ضد أمريكا والغرب، كان آخر هذا مذبحة شارلى إبدو فى باريس الأسبوع الأول من يناير الجارى.
السبب الخامس: أن تسريع وتيرة الأحداث فى اليمن، فى هذه اللحظة، قد يكون هو التوقيت الأنسب، نظرا لثلاثة عوامل:
الأول: أن الجار الشرقى «عمان» عنده مشكلة استخلاف سياسى، من بعد السلطان قابوس؟!
والثانى: أن الجار الشمالى «السعودية» يقف على مفترق طرق كبير، من بعد الملك عبدالله ومن هو خادم الحرمين الجديد؟!
والثالث: أن الجار الفارسى- كفيل الحوثيين- عنده مفاوضات حاسمة بشأن السلاح النووى مع أمريكا والغرب، حتى منتصف هذا العام.
هذه هى الحقيقة الأولى التى يستمد منها ما يجرى فى صنعاء بعض مغزاه وبعض معناه.
والحديث مستأنفٌ...