x

«الدويقة» بعد عام : الكارثة لم تنته بعد

الأربعاء 26-08-2009 23:00 |

فى مثل هذه الأيام قبل عام كان سكان الدويقة قد خلدوا إلى النوم بعد تناول سحورهم استعداداً لصيام اليوم السادس من شهر رمضان، ومع تباشير الصباح كان الحدث المزلزل.. انهيار صخرة الدويقة فوق رؤوس قاطنى «عزبة بخيت»..

عام كامل مر على الحادث، لكن المكان لم يتغير كثيراً.. بقايا الصخور المفتتة تتناثر فى الشوارع الضيقة، وأثار الحفر للبحث عن الجثث المفقودة، وأسوار تحيط بمكان الحادث، والسيدات فى ملابس سوداء.. وحالة من الرعب والذعر تسيطر على السكان، ومخاوف من أن الجبل سوف ينهار فوق رؤوسهم مرة ثانية، بعضهم يتوقع أن تتكرر «المأساة»، وتنتهى حياتهم تحت «صخرة» وربما يصبحون فى تعداد المفقودين وتردم الحكومة فوق جثثهم، ويتحولون إلى مجرد أحياء على الورق، موتى تحت الأنقاض..

لكل منهم مأساته الخاصة، ولكنهم جميعاً يشتركون فى مأساة واحدة، هى «ذكرى الحادث البشع»، الذى راح ضحيته الأهل والأصدقاء والجيران، وأصبحت «عزبة بخيت» مدينة للموتى، هكذا يصفونها بمجرد أن تطأ قدماك المكان، تجدهم يحذرونك: «انتبه فأنت فى مدينة الأموات».. ويستعد الأهالى مساء اليوم لإقامة سرادق عزاء لضحايا الحادث، ربما يجدون الراحة التى يبحثون عنها بعد عام مضى على الكارثة.

مكان الحادث: النساء فى الملابس السوداء والأهالى: «احذر.. أنت فى عزبة الأموات»

المكان.. منشأة ناصر، التاريخ.. 6 رمضان الماضى.. المشهد: كارثة مروعة.. سقوط كتل من الصخور الجبلية على منازل عشوائية.. مصرع العشرات والبحث عن مفقودين أسفل الأنقاض.. توجهت سيارات ولوادر ورجال شرطة ومسؤولين وأعضاء نيابة إلى منطقة «عزبة بخيت»، المحصورة فى نهاية شارع النهضة بين جبلين.. وتضم حوالى ١٠٠ منزل عشوائى..يتكون الواحد منها من ٣ غرف.. فى كل غرفة تسكن أسرة.

الآن.. المكان لم يتغير كثيرا عن العام الماضى.. تقع عيناك على «حى منشأة ناصر».. وبنفس الملابس السوداء والنظرات الحزينة فى عيون أمهات الضحايا وزوجاتهم وأطفالهم.. عندما ترنو ببصرك على السيدات الجالسات أمام مبنى الحى، وأنت فى طريقك إلى مكان الكارثة.. سترسم خريطة تفصيلية عن المكان.. كل شىء كما هو.. لا جديد.. قسم شرطة منشأة ناصر عن الحى.. تشعر بمجرد الاقتراب منه أنك بالقرب من «مديرية أمن».. حواجز حديدية، وكثير من سيارات شرطة أمام المبنى.

على بعد 10 أمتار من القسم..تجد «جسراً» عبارة عن شريط سكة حديد يقسم المنطقة إلى نصفين.. ويحيط بعزبة بخيت..وإذا فكرت فى صعوده تكتشف أن السلالم المخصصة للصعود «متهالكة» وأن السكان يستخدمونها فى الوصول إلى منازلهم أسفل الجسر بأمتار.. ربما تندهش إذا شاهدت شوارع المنطقة الضيقة..والغرف الأكثر ضيقا... ولكن اندهاشك سيزداد عندما تنظر داخل الغرف الضيقة جدا، لتكتشف أنه يعيش بداخلها أسرة وأسرتان يزيد عدد أفرادها على 10 فى كل أسرة.

كل شىء فى مكانه.. نفس الشوارع والمساحات الضيقة.. لم يتغير مكان الحادث عن العام الماضى كثيرا، حتى الذهول الذى أصاب السكان.. لايزال موجوداً فى أعين رجال ونساء وأطفال الدويقة.. فقط اختفت سيارات الإسعاف ولودرات المحافظة وقوات الحماية المدنية ولواءات الداخلية وعساكر الأمن المركزى الذين كانوا يحيطون بالمكان ويمنعونك من التجوال العام الماضى.. أما الآن فالأهالى هم من يوجهون لك التحذيرات من الاقتراب وهو يقولون «إنها عزبة الأموات».

فى شوارع المنطقة إذا لاحظ أحد السكان أنك غريب.. تجد عينيه تراقبك وكأنه يريد أن يحكى لك تفاصيل المأساة.. وإذا اقتربت منه تكتشف أنه لايزال يتذكر الحادث كأنه وقع بالأمس.. لا أحد يتذكر سوى تفاصيل الأيام المرعبة والبحث عن الجثث أسفل الأنقاض. وبمجرد دخولك إلى المكان.. سيكتشف الأهالى فى لحظات أنك «غريب».. يسرع أحدهم نحوك ويسألك إذا كنت موظفاً بالحى حضرت لنقلهم بعيدا عن الجبل أم لا.. وعندما تجيبهم بالنفى يبتعدون عنك.. ويتركون لك نظرات البؤس وفقدان الأمل التى تظهر على وجوههم.

فى بداية الطريق تجد مجموعة من المنازل التى تقع أسفل الأرض..أبوابها هبطت عن الشارع.. حوائط متهالكة وقديمة.. وكأنها تنتظر الانهيار أو السقوط دون أى مساعدات من الجبل.. أما مكان الانهيار فمساحته تزيد على 700 متر كانت تضم أكثر من 60 منزلاً بسكانهم.. العام الماضى أظهر جبل المقطم غضبه عليهم وانهارت الصخور فوق رؤوسهم وهم نائمون.. رجال الشرطة والمحافظة لم يجدوا حلا للتخلص من المكان سوى ردمه بالتراب..

أحد أهالى المنطقة قال: بعد مرور 45 يوماً تقريباً كانت قوات الشرطة بدأت تختفى حتى تمثلت فى 4 عساكر فقط يقفون لحراسة المكان وفى الفجر حضر عدد من سيارات النقل محملة بالتراب وسريعا تم ردم المنطقة وأحاطوها بأسوار تم بناؤها بالطوب الأحمر.. وعندما تحاول الصعود إلى مكان الحادث لابد وأن تصعد عن طريق سلم متهالك لأنه الطريق الوحيد للوصول إلى أعلى المكان.. فور أن تضع قدميك تشعر أنك بـ«صحراء» ولا تسمع سوى صوت الهواء ونباح الكلاب ولا تشاهد أياً من رجال الشرطة يسألك إلى أين أنت ذاهب.. وبدلا من أن تجد أحد الضباط يقضى ساعات فى حراسة المكان كما يخبرك عقلك فى اللحظات الأولى قبل اكتشاف الحقيقة، ستفاجأ بأن المسجلين والبلطجية احتلوا المكان، ويؤكد سكان المنطقة أنهم يستخدمونه فى الأعمال المنافية للآداب، وتخزين المواد المخدرة.

لحظات فوق الصخور، وتجد من يناديك يطالبك بالنزول من فوق تلك المساحات الواسعة التى تم ردمها لإخفاء كارثة الدويقة، وعندما تسأله لماذا.. يقول لك: أنت تمشى فوق جثث الضحايا التى تم دفنها أسفل الأنقاض، وردم المكان فوقها بدلا من استخراج الجثث ودفنها كـ«آدميين»، وأنك تسير فوق «مقبرة جماعية» أخفت الحكومة أسفلها «ضعفها» فى التعامل مع الكارثة، وعندما تخبره أنك تريد دراسة المكان، ومعرفة ما فعلته الحكومة، يتركك ولكنه يحذرك بلهجة شديدة: حسنا.. ولكن «احذر.. فأنت تمشى فوق مدينة الأموات» !

الأهالى: وعود الحكومة ذهبت.. وتركت لنا الفقر والأمراض

السادس من رمضان العام الماضى كان مليئاً بأوجاع أهالى الدويقة. كانوا على موعد مع حادثة هزت مشاعر العالم، ولكنها لم تحرك شعرة فى أجساد المسؤولين فى الحكومة.. على بعد أمتار قليلة من مكان الحادث، يعيش سكان الجبل داخل منازل تصدعت حوائطها، وانتشرت بها الحشرات.. الثعابين تظهر فيها ليلا ونهارا، قالوا إن رائحة الموتى تحت الأنقاض غادرت المنطقة بعد شهور من الحادث، وهاجمتهم الأمراض الجلدية، وتسببت الأتربة فى إصابة البعض بأمراض القلب.. وعدتهم الحكومة بـ«سكن بديل» بعد أن قام حى منشأة ناصر بحصر منازلهم فى رمضان الماضى، وبالرغم من مرور عام على الحادث لايزال الوضع كما هو عليه، ويستعد الاهالى لإقامة سرادق عزاء داخل الحى سيحضره مسؤولون وأعضاء فى مجلس الشعب وأهالى الضحايا.

«المصرى اليوم» ذهبت إليهم، قضت معهم ساعات فى الذكرى الأولى للحادث : نتذكر تلك اللحظات العصيبة التى شاهدنا فيها جثث أصدقائنا وأقاربنا وجيراننا تخرج من تحت الأنقاض- هكذا كانت بداية الكلام وأضاف الأهالى - لا ننام، ونخشى أن يسقط الجبل فوق رؤوسنا فى أى لحظة، نشعر أن الموت قادم، ولكن هذه المرة ليأخذنا نحن الذين نجونا منه فى المرة الأولى، لذلك قرر بعضنا الابتعاد عن المكان فى شهر رمضان، لأننا نشعر بـ«كارثة» سوف تحدث.

أحد شباب المنطقة - لاتزال آثار الحفر فى الصخر تظهر فى أظافره – ينظر اليها ويتحدث: كنت واحداً من الشباب الذين قاموا باستخراج الجثث، لأن الشرطة لم تفعل شيئا، وتركونا نحفر بأصابعنا وأظافرنا وبعض الأخشاب التى وجدناها فى مكان الحادث، وفى النهاية ردموا على الجثث المتبقية تحت الأنقاض، ورحلوا، وكأنها «مقبرة جماعية».

أضاف: فقدت الكثيرين من أصدقائى فى الحادث، واستخرجت عدداً كبيراً من الجثث بمساعدة الأهالى، بعضهم تعرفت عليهم، وبعضهم تشوهت ملامحهم، وبعض الجثث خرجت نصفين، وبعضها خرجت دون أقدام، وآخرون لم يخرجوا حتى الآن، ولودرات الحكومة مزقت بعض الجثث أثناء تفتيت الصخور.

داخل منزل صغير على بعد 10 أمتار من الصخرة المنهارة يعيش أحمد عليوة منذ 20 عاما بالمنطقة المنكوبة، وبمجرد أن تقترب من الرجل، تكتشف أنه مريض، يجلس فوق «حصيرة» خارج المنزل، الذى يعيش فى إحدى غرفه التى لا تتعدى مساحتها الـ 3 أمتار، حتى يستطيع تنفس بعض الهواء، يتحدث إليك وهو يضع يده فوق قلبه، بالكاد ينطق لسانه بـ«كلمتين» ثم يتوقف لحظات يستريح فيها ويتنهد بسرعة، قال: قام رجال الحى بحصر المنازل التى تقع بالقرب من مكان الانهيار فى رمضان الماضى، ووعدونا بشقق بديلة، خاصة أننا مهددون بالموت فى أى لحظة، فإذا سقط الجبل مرة أخرى، سوف يودى بحياتنا لأننا الأقرب إليه، ولا يوجد ما يمنع الصخور من الزحف فوق منازلنا وقتلنا. وتعاملوا معنا معاملة «سيئة» وقسوة شديدة، وتجاهلوا حقوقنا، ورغم مرور عام على الحادث لم يسأل أحد فينا.

وتابع: أحاطوا مكان الانهيار بأسوار قاموا ببنائها بعد ردم المنطقة فوق جثث الضحايا، التى تزيد على المائة ضحية تحت الأنقاض، وتركونا وسط رائحة الموتى، والأمراض والأوبئة التى انتشرت وبدأت فى الظهور فى شكل أمراض جلدية، وإذا ذهب أحدنا إلى المستشفى، يقول له الأطباء وهو ينظر إليه من بعيد دون الاقتراب منه «روح.. امشى، وهنبقى نيجى نشيلك زى اللى شيلناهم قبلك فى الحادث».

أما سيدة أحمد محمد «45 عاما»، فتعيش داخل منزل تشققت جدرانه، ويقع على مسافة 5 أمتار من السور المحيط للانهيار، قالت: «لن أنسى الحادث، ومازال عقلى يحتفظ بمشهد الانهيار وجثث الضحايا، وكأنه حلم يراودنى فى المنام كل ليلة، استيقظ مفزوعة على صوت الارتطام، أهرول إلى الشارع، لأجد كل شىء كما حدث يوم الانهيار، منازل الجيران تختفى تحت الصخور، والأسوار التى بنتها الحكومة تحيط بمكان الحادث، ومعظم الأيام لا تغفل عينى، أخاف أن أرى جثث الضحايا التى أسمعها تنادينى فى الحلم، نعيش حياة تعيسة، نشعر أننا أموات مثل الذين راحوا فى الحادث، وأن الدور القادم علينا.. ولكننا لا نجد مكاناً بديلاً لننتقل إليه».

أضافت: كنا نعيش حياة سعيدة، وفقدنا الكثيرين من الأقارب والجيران والأصدقاء الطيبين، يقول: «الجميع راحوا فى الحادث.. الجيران والأصدقاء.. والذكريات.. كلما ذهبت إلى العمل أراهم أمام عينى، أشاهد جثثهم تخرج من تحت الأنقاض، فأعجز عن العمل».

عندما تغفل عينى أشعر بالموتى ينادون علينا- تصمت السيدة قليلا ثم تواصل حديثها- استيقظ وأخرج إلى الشارع، أمام المنزل، أجد بعض المسجلين خطر فى المنطقة وبصحبتهم فتيات ليل، يجلسون فوق الصخور، ويرتكبون أفعالا خادشة للحياء دون مراعاة حرمة الموتى والمنازل، وعندما يعترض لهم أحد السكان يهاجموه بالسكاكين والأسلحة البيضاء، ويقذفونه بالحجارة.

أعيش بجوار الجبل منذ تزوجت من 13 عاما- الكلام على لسان فاطمة محمود عمر - وأنجبت 3 أطفال، سلمى أصيبت بحساسية فى الصدر، ونور أصيبت بالتهاب رئوى، والثالث أخشى أن يصيبه مكروه، فالمكان لا يطاق، حيوانات ضالة تعيش مكان الانهيار، وثعابين تنتشر فى المنازل، ورائحة الموتى غادرت المنطقة بعد الحادث بشهور، والأتربة انتشرت بشدة، ذهبت بطفلتى سلمى إلى مستشفى الصدر، أشكى للطبيب، فقال لى: «إنتظروا حتى يأتى عليكم الدور، حتى نأتى ونأخذكم جثثاً مثل ما فعلنا مع جيرانكم الموتى».. والجميع يتعامل معنا بقسوة، رغم أن الحى قام بحصر منازلنا ووعدنا المسؤولون بتسليمنا شققاً نعيش فيها مثلما فعلوا مع جيراننا الذين تسلموا شققاً فى المساكن، ولكنهم لم ينفذوا وعودهم حتى الآن.. لا أعرف هل ينتظرون كارثة أخرى، أم ينتظرون موتنا؟ حتى يتحركوا لنجدتنا وإنقاذنا من الأمراض التى تصيب أطفالنا الصغار؟

نعيش مرعوبين - تضيف السيدة - ونشعر أن حياتنا فى خطر، وبعكاز خشبى يتكئ عليه رمضان عبدالعال عامل معمارى، وقف يروى مأساته وسكان الجبل، قال: «الصخرة صدعت حوائط المنازل المحيطة بالانهيار، وشققت الجدران، وزادت الحشرات الزاحفة، وملأت الثعابين البيوت، وأخرجنا 6 ثعابين من المنازل الأسبوع الماضى، أصبحنا معرضين للموت إما بسقوط صخرة أخرى أو بلدغة ثعبان سام.

وأضاف: الكثير من الأسر تضررت من الانهيار، ووصل عدد الجثث تحت الأنقاض إلى 400 جثة، وانتشر مرض الصدفية بين السكان، وأصيب البعض بأمراض القلب، وأجرى البعض جراحات فى القلب، وزادت نسبة الحساسية بين الأطفال بسبب الأتربة، وتم حصرنا وأخبرونا أنه سيتم نقلنا، ثم قاموا بتهديدنا بعد ذلك، بأن من يتحدث سوف يتم تأديبه، رغم أن كل ما نطلبه هو سكن بديل، حتى وإن كان خيمة.

المفقودون فى الانهيار: أحياء فى «أوراق الحكومة».. أموات فى ذمة «أسرهم»

تتمزق قلوب العشرات من بعض أهالى الضحايا لفقدهم عدد كبيرمن أقاربهم تحت الأنقاض.. ظلوا أياما وشهوراً يبحثون عن جثثهم بين الأموات دون فائدة.. أمل العثور اختفى من قاموس الأهالى ووقفوا عاجزين وسط الصخور والرمال وقوات الدفاع المدنى.

رصدت «المصرى اليوم» مشاهد مؤلمة لهؤلاء.. المشهد الذى لا يمكن وصفة هو فقدان هؤلاء لجزء منهم تحت الأنقاض.. قصة «أبوحبيبة» التى يرددها الصغير والكبير.. الأب يتحدث مع الصخور ويسأل كل صخرة: «بنتى تحت مين فيكم ويصرخ بأعلى صوته وسط صخور الجبل المنهار ويمسك ترابه بيديه وكاد ينهش الصخر بأسنانه لاستخراج ابنته من تحته».. أم وحيد لها قصة تدمى القلوب فحينما أخبروها بالعثور على جثة ابنتها «إيمان» لم تستلم منها سوى ساقها التى استخرجت بشهادة وفاتها وفقدها حفيدها ووالدته تحت الأنقاض وتمكنها من تسلم أشلاء وعظام 3 من أولادها وزوجها وحفيدها..وهؤلاء المفقودون أحياء فى ذمة الحكومة وأموات فى ذمة أهاليهم.

يقول عويس جابر عويس «36 سنة» الشهير بـ«أبوحبيبة» أنا فقدت ابنتى حبيبة «4 سنوات» تحت الأنقاض وعلاقتى بها ليست علاقة أب بابنته بل كانت صديقة وأختاً وابنة وأماً وسندى فى الدنيا، رغم صغر سنها إلا أن تفكيرها وردود أفعالها فى المواقف كأنها ابنة العشرين، أنجبتها بعد رحلة شقاء مع الأطباء، راحت منى فى لحظة حاولت إنقاذها لم أتمكن فتضاءل أملى فى العثور عليها حية، ظللت أبحث عن جثتها وسط الأموات بين الصخور وفى الرمال، لكننى فشلت توسلت للمسؤولين للبحث عنها بدقة حتى أتسلم جثتها وأدفنها بيدى لتبرد نارى فكانت توسلاتى دون فائدة،

توهجت النيران بداخلى حينما أعلن المسؤولون من الدفاع المدنى إنهاء أعمال البحث عن المفقودين وعدم وجود جثث تحت الانقاض وازدادت أكثر حينما تعامل معى المسؤولون بكل قسوة ورفضوا استخراج شهادة وفاتها لعدم العثور على جثتها، تناقض كلام المسؤولين جعلنى أكلم نفسى ولم أجد من يقف بجانبى حتى الآن، ابنتى ماتت وراحت وسط الأنقاض والحكومة معترفة بها من الأحياء، كل ما تمكنت من الوصول إليه لكى أتذكرها مجموعة من الصور الفوتوغرافية التى عثرت عليها وسط الصخور وتحت الرمال

صمت «أبوحبيبة» وامتلأت عيناه بالدموع واستطرد كلامه قائلا يوم الحادث كانت ابنتى بين يدى قبل انهيار الجبل بربع ساعة.. ظلت تجرى خلفى مصممة على الذهاب معى إلى السوق لكنى رفضت وأعدتها إلى المنزل وتركتها مع والدتها.. عشر دقائق بعد خروجى من منطقة سكنى فى طريقى للسوق فؤجئت باتصال هاتفى من أحد الأقارب بأن الجبل انهار وجدتهم يسألونى بنتك ومراتك معاك صرخت وعدت كالمجنون وجدت أكواماً من التراب والصخور اختفى تحتها مئات من الناس.. حاولت أرفع الصخور بمساعدة الأهالى دون جدوى.

الساعة 8 ونصف كانت بداية رحلة عذابى وجرحى الذى ينزف حتى الآن.. أبحث عن زوجتى وابنتى لفترة طويلة وبعد شهر من الحادث تم استخراج جثة زوجتى فعاد أملى مرة ثانية بوجود ابنتى بجوارها لكن قوات الدفاع لم يجدوها، بحثت عنها حتى عيد الأضحى، ووجدت المسؤولين يخبرونى بأنهم استخرجوا 9 جثث مجهولة الهوية بينهم 3 أطفال، فذهبت وأجريت التحاليل اللازمة على أمل حمل أشلائها ودفنها ليرتاح قلبى لكن التحاليل جاءت بالسلب وكان هذا آخر أمالى فى العثور عليها.

كنت أنام وأرى حبيبة تحدثنى وصوتها يرن فى أذنى وضحكاتها لا تفارقنى.. آخر حوار دار بيننا قبل الحادث بربع ساعة قالت لى « بابا أنا هاروح معاك السوق وهبيع معاك ومش هعمل شقاوة إنت عارف إنى بعرف أعمل كل حاجة، ظلت تجرى ورائى حتى أول الشارع إلا أننى أرجعتها لقدرها ونصيبها كان أصعب يوم مر على بعد الحادث هو 9 فبراير الماضى يوم ميلاد ابنتى فأكملت عامها الخامس، احتفلت به فى المكان المنكوب وافترشت صورها التى عثر عليها تحت الأنقاض، على الأرض وشعرت كأنها واقفة أمامى بابتسامتها البرئية وتطفئ معى شمعتها الخامسة والأخيرة.

يتوقف الرجل عن الكلام قبل أن يتحدث عن الحكومة: وقت الحادث كانت واقفة ولم تستطع عمل شىء وكل ما كانوا يفعلوه هو ضرب الأهالى ولا يرحمون آلامهم لفقدهم أجزاء منهم تحت الأنقاض، وحينما انتشرت رائحة الجثث فى المكان نبه المسؤولون على الأهالى بشراء الكمامات.

لا أحتاج شيئاً من الدنيا سوى الستر.. هذه أولى العبارات التى قالتها فتحية مصطفى أحمد والشهيرة بـ«أم وحيد» تقابلنا معها.. فتحية فقدت 8 من أسرتها.. زوجها و4 من أبنائها وحفيديها وزوجة ابنها.. إلا أنها لم تتسلم سوى شقة واحدة تزوج فيها ابنها الذى تبقى لها، وهى الآن تقيم عند الجيران، رفض المسؤولون من الحى تسليم ابنها شقة رغم أنه كانت لديه شقة فى منزل والده، كما رفضوا استخراج شهادة وفاة حفيدها ووالدته لعدم العثور على جثتهما، تحدثنا معها فكانت بداية حديثها البكاء ونهايته بالبكاء والحسرة أيضا، كل ماتبقى لها بعد الحادث مجموعة من الصور الفوتوغرافية عثر عليها تحت الأنقاض وهى الذكرى الوحيدة لأغلى ماتملك.

ليلة الحادث - السيدة تتحدث - وجدت زوج ابنتى المقيم فى مدينة النهضة يتصل بى ويخبرنى بأنها تعانى من آلام الوضع.. أسرعت إليها وتركت زوجى روبى السيد وابنتى إيمان «16 سنة» وهند» 13 سنة» ورمضان «21 سنة» وفى البيت المجاور ابنى وحيد «31سنة» وزوجتة فايزة حمدان «25سنة» وحفيدى محمد «6 سنوات» وإبراهيم «3 سنوات» وفى الثامنة والنصف صباحا فوجئت باتصال هاتفى من الجيران يبلغونى بأن الجبل انهار وبيسألونى عن إيمان وهند لأنهما إعتادتا الذهاب معى عند شقيقتهما.. وصلت إلى مكان الجبل فوجدت ابنتى الكبرى فاطمة وابنتيها وزوجها وقد أخرجهم الأهالى من تحت الأنقاض سألتها عن باقى أخواتها وأبيها أشارت بيديها بأنهم تحت الصخور صرخت، ووقفت أمام الجبل المنهار أنتظر جثثهم.

أضافت: خرج زوجى وابنتى هند من تحت الأنقاض بعد 4 أيام، ومرت الأيام وفوجئت برجال الدفاع المدنى يستخرجون ساقين كانت بينهما ساق ابنتى «إيمان» وتعرف عليها شقيقها رامى من عيب خلقى كان فى أصابع قدمها فصرخ وحملها ودفن ساقها دون العثور على باقى أجزائها وبعد 40 يوماً استخرج رجال الإنقاذ جثث ابنى وحيد ورمضان وحفيدى محمد، أما جثة حفيدى إبراهيم ووالدته فايزة فمفقودتان حتى الآن.

وتابعت: كان لدينا منزلان ومحل، راحت فى الحادث ولم يتم تعويضى إلا بشقة طلبت منهم محلاً حتى أنفق على نفسى فى الأيام المتبقية من عمرى حتى الآن لم أتسلمه، كما أنهم رفضوا إعطائى تعويضاً على وفاة ابنى «وحيد» وحفيدى بحجة أنه متزوج وأنى غير مسؤولة عنه، أضافت أن حماة ابنها تركت القاهرة وعادت إلى بلدها بالفيوم بعد مصرع ابنتها وفشلها فى استخراج شهادة وفاتها لعدم العثور على جثتها، ورفض المسؤولون تسليمها شقة رغم أنها كانت تقيم معها كما رفضوا صرف تعويض.

استكملت الحديث ابنتها فاطمة «32 سنة» ليلة الحادث ذهبت إلى منزل والدى للجلوس مع أشقائى بعد ذهاب والدتى إلى شقيقتى بالنهضة وفى الثامنة والنصف صباحا فوجئت بصوت فرقعة ووجدت المنزل ينهار عليه، أنا وأولاى الثلاثة وسقطنا جميعا تحت الأنقاض، وبعد نصف ساعة تحت الأنقاض وفقدان الأمل كنا نسمع أصوات الناس، إلا أنهم لم يسمعوا استغاثتنا، وأثناء الحفر ورفع الصخور خرجنا من تحت الأنقاض وتم نقلنا إلى المستشفى، فى حالة سيئة، وفى تلك اللحظة كانت والدتى واقفة ولم تستطع التعرف على نتيجة التشوهات التى أصابتنى، وعرفتنى من ابنى وأخبرتها أن كل أشقائى تحت الأنقاض.

رحلة عذاب لاستخراج شهادات الوفاة.. والمسؤولون: أمامكم 4 سنوات

أسر ضحايا المفقودين فى الحادث يطلبون استخراج شهادات وفاة لأبنائهم وذويهم الذين دفنهم الجبل ولم يستخرجوا جثثهم.. وفى المقابل يرد المسؤولون «القانون يلزمهم بالانتظار لمدة 4 سنوات بعد تحرير بلاغات بفقدانهم».. ويعلل المسؤولون بأنهم ليسوا متأكدين من أنهم أسفل الأنقاض. كما أن لعبة الشقق تدخل فى صراع البحث عن شهادة وفاة لتسلم شقة.

قال مصدر مسؤول بمصلحة الأحوال المدنية، «استخراج شهادات الوفاة لأى شخص يتم بتقرير من مفتش الصحة بعد مناظرة الجثة. وفى حالة مصرع شخص فى حادث أو كارثة مثل انهيار جبل المقطم فى الدويقة، وعدم العثور على جثته فإن المسؤول عن استخراج شهادات الوفاة «رئيس الوزراء» ويكون قرار استخراج الشهادة استثنائياً مثلما حدث فى واقعة عبارة السلام، أما بالنسبة للأشخاص المتغيبين أو المفقودين دون كوارث فإن استخراج شهادات وفاتهم تكون بعد مرور 4 سنوات على تغيبهم.

أشار ياسر فتحى– محام- إلى أن الكوارث البحرية تختلف عن أى كارثة فالأشخاص يكونوا معلومين وفى حاله فقدان أحدهم يتم استخراج شهادات وفاة ،لكن المسؤولين دائما يقفون عقبة أمام الضحايا ويزيدون من آلامهم، ففى «كارثة العبارة» تم استخراج شهادات وفاة للمفقودين بقرار استثنائى من رئيس الوزراء طالما مر على غيابهم 15 يوماً، وبالنسبة لحادث الدويقة فلا توجد أوراق تؤكد أن المفقودين كانوا موجودين فى وقت وقوع الحادث ففى هذه الحالة يتم عمل تحريات المباحث والاستماع إلى شهادة الشهود وعلى أساسها يتم تحديد الأسماء ويتم تقديم طلب إلى رئيس الوزراء للموافقة على استخراج شهادات وفاة للمفقودين، وفى حالة عدم تلبية المسؤولين لطلبات أهالى الضحايا فيجب عليهم عمل محضر بتغيب أو فقد أقاربهم حتى يتمكنوا من استخراج شهادات وفاتهم بعد مرور 4 سنوات وهذا ما ينص عليه القانون.

وأضاف أن مسؤولى الدولة يرتكبون جريمة بأعمالهم لكن القانون لا يحاسبهم عليها وهى تعذيب المواطنين، فحدوث الكارثة لا يسأل عنه أحد لكن الذى يسأل عليه هو التقصير تجاه المنكوبين، لأن المنكوب فى أى كارثه فى مصر يتم التعامل معه كأنه من المجرمين وتتعامل معهم كل أجهزة الدولة بقسوة وعلى رأسهم وزارة الداخلية التى تفرض كردوناتها وحواجزها الحديدية وتعتدى على الضحايا وأهاليهم بشكل سيئ، فالناس غير مسؤولين عن السكن فى الدويقة ولكن المسؤول الذى أعطى الموافقات على إدخال المرافق وسمح لهؤلاء بالإقامة والسكن فيها.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية