بشباك الصيادين المهرة، يقتنص الكلمات والمعانى والصور لينسج بها لوحات شعرية، استقرت فى ضمائر الملايين، ويبدو أن حنينه للهندسة التى هجرها ليتفرغ للشعر لم يتوقف فراح يمارسها فى بناء القصيدة، وصار يحلو للبعض أن يسميه مهندس شعر العامية والأغنية المصرية، ومنذ سنوات عدة اعتاد سيد حجاب على الحضور بشكل أساسى فى تترات المسلسلات الرمضانية، وهذا العام يشارك فى أكثر من مسلسل، كما يحل ضيفا على العديد من الندوات والأمسيات الشعرية خلال الشهر الكريم، ويستعد أيضا لإصدار ديوان الأغانى، بعد أن صدر له مؤخرا ديوان «قبل الطوفان الجاى» عن دار ميريت.. فى هذا الحوار يتحدث عن قضايا الشعر واتجاهه لكتابة الأغانى وخصومته مع النشر، وتصالحه معه، والعديد من القضايا والمشاكل المتراكمة فى الحياة الثقافية المصرية.
■ اعتدنا حضورك فى الدراما الرمضانية فما الجديد الذى تقدمه هذا العام؟
ـ بشكل أساسى كتبت أغانى الجزء الثانى من مسلسل المصراوية، وهو من تأليف أسامة أنور عكاشة وإخراج إسماعيل عبدالحافظ ولحن الأغانى صديق عمرى عمار الشريعى، وأرى أن هذا المسلسل بمثابة سفر التكوين لمصر الحديثة، فأسامة أنور عكاشة يحاول من خلاله أن يرصد كيفية تخلق مصر الحديثة من رحم الإقطاع والاستعمار ويرصد التغيرات الاجتماعية والإنسانية فى واقعنا المصرى، كما أشارك بأغانى المقدمة والنهاية لمسلسل «الأشرار» الذى كتبه الدكتور عمرو عبدالسميع ويخرجه أحمد صقر، ووضع ألحان الأغانى خالد جودة ويغنيها مدحت صالح، وكتبت أيضا تترات مسلسل «عبودة ماركة مسجلة» لحنها عصام كاريكا ويغنيها حمادة هلال،
بالإضافة إلى تترات مسلسل إذاعى هو» شموع وحنين» من إخراج طارق عبده وألحان ماجد عرابى وغناء ريهام عبدالحكيم، وإلى جانب ذلك أشارك خلال شهر رمضان فى أمسيات يقيمها صندوق التنمية الثقافية والثقافة الجماهيرية واتحاد الكتاب، وأكون فى معظمها بصحبة صديقى الملحن السكندرى حمدى رؤوف.
■ لديك حضور طاغ على الساحة الغنائية وفى الندوات مقابل غياب واضح عن مجال النشر.. هل الأمر مقصود؟
ـ نعم، فمنذ صدور ديوانى الأول «صياد وجنية» عام 1966، الذى استقبله الوسط الثقافى وقتها بحفاوة بالغة وشبهنى بعض النقاد الكبار بإيلوار ولوركا، أحزننى جدا أن هذا الديوان لم يصل إلى أصحابه الحقيقيين الذين استلهمته من حياتهم وتوجهت إليهم بأشعاره، فأدركت وقتها أن التدوين بالقراءة والكتابة ليس الوسيلة المثلى لمخاطبة شعب تغمره الأمية، فاتخذت قرارا بالابتعاد عن النشر وبدأت أتحرك فى اتجاه المشافهة بمخاطبة الأذن والعين، وحققت ذلك من خلال الدواوين الشعرية الإذاعية مثل «بعد التحية والسلام» الذى بدأته مع عبدالرحمن الأبنودى، ومثل عمار يا مصر وأوركسترا وغيرها من الدواوين الإذاعية التى أخرجها الأستاذ فتح الله الصفطى والأستاذ عصام لطفى ومن وقتها بدأت أتوجه إلى السينما والتليفزيون والندوات لمخاطبة المتلقى شفاهة، وكان رهانى صحيحا، لأن العالم كله يهتم الآن بوسائل التدوين السمعية والبصرية «الأوديوفيجوال»،
مما جعلنى أصدر ديوانى الأخير «قبل الطوفان الجاى» مصحوبا بأسطوانة مدمجة لإلقاء القصيدة، ولدىّ مشروع لإعادة إصدار دواوينى القديمة خاصة الجزء الأول من الأعمال الكاملة الذى يضم مجموعات «فى العتمة، وأصوات، ونص الطريق» مصحوبة بأسطوانات مدمجة لإلقاء القصائد،
بالإضافة إلى «دى فى دى» مسموع مصور لبعض القصائد، كما أعد لإصدار ديوانى الغنائى كاملا وللأسف لن أتمكن من إرفاق الأغانى كلها على «سى دى» ولكن ستكون هناك أجزاء من موسيقى بعض الأغانى على «سى دى» مرفق بالكتاب، وهناك مختارات شعرية من المقرر أن تصدر قريبا عن دار الشروق ولكن دون أسطوانات، ويمكن أن أقول إننى استفدت من تقنيات العصر فى الطريق الذى اخترته، وبهذه الطريقة أكون قد صححت موقفى تجاه مسألة النشر.
■ حاولت الخروج بالشعر من التدوين إلى الشفاهية للوصول إلى الناس.. هل ترى أن هناك فجوة بين الشاعر والجمهور؟
ـ بالطبع هناك قطيعة، وعلينا أن نتساءل أولا من الذى يمنح الإبداع مشروعيته، فى البداية كان المجتمع ممثلا فى القبيلة هو الذى يمنح هذه المشروعية، وبعد ذلك عندما تكونت النخب فى دواوين الخلفاء أصبحت هى التى تمنح المشروعية، وفى العصور الحديثة أصبحت الذائقة العامة والنخب الحقيقية غير المصنوعة هى المنوطة بهذا الدور، أما الآن فللأسف الشديد كثير من ممثلى النخب الذين تعلموا الشعر ودرسوه وعرفوا قواعده يفتقدون الذائقة، مما خلق نوعا من التقدير الزائف والشيوع الزائف أو المغلوط، ليصبح الشاعر كبيرا لأنه كبر فى السن وليس لأن عطاءه الشعرى كبير، المعايير عندنا مغلوطة بحيث يصبح أكبر اسم شعرى مشهور فى زماننا هو «أدونيس»، اسأل أى مواطن عربى ماذا يعرف عن أدونيس، ماذا أضاف له أدونيس، هل منحه لحظة متعة واحدة فى حياته؟
ستجد أنه يتحرك فى عالم آخر غير عالم الناس، أتصور أننا ضللنا منذ أخرجنا المعيار الاجتماعى من الذائقة الشعرية وتركنا التقييم لمجموعة من المتعلمين فاقدى الذائقة الحقيقية، ولا أتصور فى العالم كله أن هناك فنونا للنخبة، وأخرى للعامة، الفنون جميعها للعامة، دائرة الإبداع الحقيقية لا تكتمل إلا بوجود المتلقى الحقيقى، وفى حال غيابه تصبح هذه الإبداعات «استمناء شعريا».
■ إذا عقدنا مقارنة بين الحركة الشعرية فى الستينيات ونظيرتها الآن من حيث التحامها بالشارع والجمهور.. ماذا تقول؟
ـ فى الستينيات، كان رواد الشعر الحر أو قصيدة التفعيلة أكثر التحاما والتصاقا بالشارع والجمهور، نظرا لتغير محتوى القصيدة بالتوازى مع تغير الشكل فتجد مثلا صلاح عبدالصبور يستخدم ألفاظا وكلمات أو تراكيب موجودة فى الشارع مثل «وشربت شاى فى الطريق ورتقت نعلى ولعبت بالنرد الموزع بين كفى والصديق قل عشرة أو عشرتين» وكذلك أحمد عبدالمعطى حجازى فى قصيدته «سلة ليمون» والكثير من الأعمال الأخرى التى اعتمدت على إدراج لغة الشارع لفظا أو تركيبا فى القصيدة،
وكان هذا اتجاها عاما فى الثقافة والإبداع يهدف إلى إشاعة ثقافة جديدة ورفع شعارات مثل الفن للحياة والشعر للحياة، إلا أن هذه المحاولات انكفأت مع النكسة، وعدنا للتيه من جديد، نعيد سؤال الهوية بين العروبة والمصرية، والحداثة والمعاصرة والفن للفن أم للحياة، بالتأكيد هناك من عرفوا الطريق الصحيح ومشوا فيه، لكن الكثرة الغالبة مشوا «فى سكة اللى يروح ما يرجعش».
■ كيف ترى المشهد الشعرى الآن خاصة فى ظل وجود قصيدة النثر؟
ـ قصيدة النثر حتى الآن لم تكتسب مشروعيتها الشعبية، وظلت تدور فى فلك مجموعة من النخبة المعزولة عن شعبها، لا تستلهم ثقافات شعبها ولا تسعى لإحداث تغيير فى المجتمع، مازالت تدور فى إطار نزوة لا ينبغى مصادرتها ولكن يصعب الاعتراف بدورها الحقيقى فى حركة الشعر، فهى لم تقدم حتى الآن منجزا عبقريا يغير فى الذائقة العامة، ومازال شعراؤها يكتبون ويقرأون لبعضهم البعض ويديرون ظهورهم للواقع والواقع يدير ظهره لهم،
وبخلاف تلك القصيدة هناك مواهب شابة مازالت تكتب شعر التفعيلة أو العمودى بالفصحى والعامية وتبشر بمستقبل واعد للشعر، وهؤلاء الشعراء متناثرون فى كافة المحافظات.
■ كيف ترى دور الدولة فى نشر الثقافة والإبداع؟
ـ دور الدولة فى الساحة الأدبية تراجع كثيرا، ففى فترة ما، أيام ثروت عكاشة وغيره، كانت الدولة ترى أن الثقافة خدمة ينبغى توصيلها للجماهير، فتم تأسيس المعاهد الشعبية والثقافة الجماهيرية فى محاولة لإشاعة الثقافة عبر الوطن بكامله، أما فى الفترة الأخيرة فالدولة تتجه نحو تسليع الثقافة، فخارج الإطار المتحفى الدولة سحبت يدها من السينما وتقريبا من المسرح، وجوائز الدولة ولجانها بشكل عام دون سياسة واضحة، أحكام القيمة لا تتصل بالأدب وإنما بالقرب أو البعد عن السلطة، لدرجة أن الدولة «شخصنت» جوائزها،
وجعلت أكبر جائزة باسم رئيسها، ولا توجد دولة فى العالم تسمى جوائزها باسم شخص أيا كان هذا الشخص، فالجوائز الكبرى تكون باسم الدولة، أما الدولة التى تسمى أكبر جوائزها باسم شخص فهى دولة لا تحترم نفسها وتلغى وجودها كدولة وتتحول إلى عزبة، وبالتالى مثل هذه الجوائز لا تمنح للأجدر، صحيح أن بعض الأشخاص الجديرين بها حصلوا عليها مثل بهاء طاهر ويوسف الشارونى، لكن أليس عجيبا ألا يأخذها هؤلاء إلا فى نهاية العمر،
بينما يأخذها كثيرون ممن لا قيمة أدبية لهم بالمرة، هل يصح أن يحصل على أعلى جائزة أدبية كاتب لا علاقة له بالأدب، مجرد صحفى سطحى كان قريبا من السلطة فى فترة ما يفوز بالجائزة بينما يحرم منها شوقى ضيف مثلا. هذا فى رأيى يعكس موقف الدولة المرتبك وأنها لا ترى فى جوائزها ودورها الأدبى إلا محاولة رشوة المثقفين وترويضهم، ربما يكون ما يحدث منطقيا فى الإطار العام، وقد أكون أنا غير المنطقى.
■ هل بسبب هذا الموقف الحاد من المؤسسة واستقالتك من لجنة الشعر بالمجلس أنت مستبعد من جوائز الدولة؟
ـ أولا استقلت من لجنة الشعر بعد أن وجدت نظرة متعالية من بعض الشعراء لمن يفوقونهم قيمة، بدعوى أن هؤلاء يكتبون بلغة الشعب ومكان إحرازهم الجوائز لجنة الفنون الشعبية وليس لجنة الشعر، كما أنهم رفضوا اقتراحا بتسمية بعض ندوات مؤتمر للشعر بأسماء صلاح جاهين وبيرم التونسى وفؤاد حداد،
أما بخصوص جوائز الدولة فمعروف أن غالبية أعضاء اللجان هم موظفو وزارة الثقافة بحكم مواقعهم، والجهات التى ترشح هى الجامعات أو الهيئات الحكومية باستثناء أماكن محدودة جدا مثل أتيليه القاهرة، ومن يريد الترشح للجائزة يجب أن «يلف» على الجامعات أو أكاديمية الفنون أو اتحاد الكتاب أو أتيليه القاهرة ويقول لهم: «رشحونا يا جدعان»، وأنا لا أفعل ذلك، لا أتسول الترشيح ولا أتسول الجائزة، وأرى أن الأديب الحقيقى الذى يحترم نفسه أكبر من أى جائزة.