لا يكاد يمر فصل الشتاء كل عام دون حدوث أزمة باتت توصف بـ«الموسمية» فى أسطوانات البوتاجاز، البعض يرى فى أزمة شتاء العام الجديد التى شهدتها مختلف المحافظات، خاصة الإسكندرية «أمراً غير مسبوق» لتزامنها مع موجة من الطقس شديد البرودة الذى يجتاح البلاد منذ أسبوعين.
«المصرى اليوم» عايشت الأزمة لمدة 12 ساعة، قضتها أمام أكبر مستودعات البوتاجاز فى حى العامرية، وقد تسببت نوة «الفيضة الكبرى» فى ارتفاع نسبة العجز فى مخصصاتها بنحو 55%- بحسب مديرية التموين.
كعادته منذ وفاة زوجته قبل شهرين يستيقظ إبراهيم السيد، يوميا فى السادسة صباحاً لتجهيز وجبة الإفطار لأولاده الأربعة قبل انصرافهم إلى مدارسهم لأداء الامتحانات وذهابه إلى عمله فى مخزن بوتاجاز «حربى مصطفى» الذى يبعد عن منزله نحو 500 متر.
فى مشهد يومى متكرر اعتادت عليه عينا إبراهيم، صاحب الجسد النحيل، منذ اندلاع الأزمة، بمجرد ظهوره فى شارع البحرية الذى يقع فيه المخزن، يتجمهر بشكل عشوائى مئات المواطنين الراغبين فى استبدال أسطوانات البوتاجاز وسط مشاحنات لا تنقطع.
«من بعد الأزمة الأخيرة بشوف ناس جاية من الساعة 7 الصبح من كل حتة قدام المخزن»..هكذا علق «إبراهيم» الذى تجاوز العقد الرابع من عمره بخمس سنوات، على المشهد أمام المستودع.
وأضاف وهو يخرج من جيب سترته الثقيلة كراسة مطوية مدونا بها أسماء لمواطنين سلموا أسطواناتهم إلى المخزن: «أسماء كتير بتتأجل كل يوم منذ خفض الحصة عقب موجة الطقس السيئ وغلق الموانئ ما يسبب الزحام».
ويبلغ إجمالى الحصة اليومية للمخزن الذى يعد الأقدم والأكبر فى الحى، نحو 560 أسطوانة، إلا أنها انخفضت إلى 180 خلال الأيام الماضية التى تلت فترة النوة، وفقاً لإبراهيم.
مع دقات الساعة السابعة والنصف يفتح «إبراهيم» ومعاوناه، باب المخزن، لبدء تسلم أسطوانات فارغة وتسجيل الأسماء من جديد، وسط استمرار تدفق المواطنين الذين انتظموا فى طابورين أحدهما خصص للنساء وامتد لعشرات الأمتار، وآخر قصير للرجال.
فى حوالى العاشرة صباحاً يغلق إبراهيم باب المخزن عقب انتهاء عملية تسلم الأسطوانات الفارغة، وهو يصيح فى المواطنين الراغبين فى تسليم الأسطوانات: «النهاردة استكفينا وحمولة العربية اللى جاية يا دوب تكفى الأسماء المسجلة من إمبارح».
على أسطوانة بوتاجاز وضعها بالقرب من مدخل المستودع، جلس عبدالباسط أحمد، الأربعينى الذى يعمل فنياً بأحد المستشفيات، يدخن سيجارة فى انتظار وصول سيارة الأسطوانات.
«بقالى يومين بحاول أغير الأنبوبة وكل مرة يقولوا لى استكفينا العدد، والنهاردة أخذت إذن من العمل من أجل تغييرها لأن دى بقت مهمة صعبة»، قالها «عبدالباسط» وهو يدهس بإحدى قدميه ما تبقى من سيجارته.
فى الناحية المقابلة للمخزن وعلى جانبى شارع «التُرب» جلست العشرات من النساء بصحبة عدد من صغارهن الذين يلهون أمامهن فى انتظار وصول سيارة الأنابيب، يتجاذبن أطراف الحديث مع بعضهن البعض.
صباح عبدالحفيظ، البالغة من العمر 57 عاماً، قالت وهى تخفى يديها خلف شال من الصوف ترتديه: «أعيش بمفردى وبقالى 3 أيام بحاول تغيير الأنبوبة الوحيدة اللى عندى ومش عارفة بسبب الزحمة».
تفسر «صباح» سبب قدومها كل يوم إلى المستودع: «اللى جاى على قد اللى رايح وأنا مش حمل تغيير أنبوبة بـ40 جنيه من بره المخزن».
موجة الطقس السيئ، التى تسببت، بحسب مسؤولى التموين، فى تلك الأزمة، لم تقف عند هذا الحد لكنها امتدت إلى ساعات الانتظار التى يقضونها يومياً فى سبيل الحصول على أنبوبة.
مع دقات الرابعة عصراً غطت السحب سماء المنطقة لدقائق قبل أن تبدأ فى إلقاء حمولتها من الأمطار على رؤوس وأجساد النساء والأطفال والرجال الجالسين على جانبى الشارع، الذين سارعوا إلى الاحتماء بمداخل المنازل والمحال وأشجار النخيل القريبة.
أسفل سقف خرسانى بمدخل أحد المنازل غير مكتملة البناء، وقفت الأربعينية نادية محمد منصور، «ربة منزل»، تحتمى من قطرات المطر المتساقطة بغزارة وهى تردد: «ماحدش حاسس بحد إحنا مش عارفين نطبخ ولا نستحمى بقالنا 4 أيام وعيالنا عايشين على الجبنة والمعلبات».
وأضافت: «اضطريت أطبخ وأسخن ميه على الكانون علشان العيال، وبسبب الدخان ذهبت إلى الدكتور لأننى مصابة بحساسية صدر مزمنة».
تأثير الأزمة لم يقتصر على المواطنين أو أصحاب المخازن، وإنما امتد ليشمل موزعى الشارع أو ما يطلق عليهم «السريحة» الذين يزاول البعض منهم نشاطه بموجب ترخيص من إدارة التموين فى المنطقة.
أشرف نجاح، أحد هؤلاء «السريحة» الذين ينالون حصة يومية من المستودع تقدر بنحو 20 أسطوانة، لكنه ومنذ اندلاع الأزمة التى يصفها بالموسمية قبل أسبوع، لم يعد يزاول نشاطه نتيجة سحب مسؤولى المستودع ترخيصه بشكل مؤقت لحين استقرار الوضع.
يقول أشرف البالغ من العمر 32 عاماً، الذى استغل فترة توقفه عن العمل فى إجراء بعض الإصلاحات لسيارته التى يعمل عليها: «بعد النوة كمية الغاز الواردة إلى شركات التعبئة بدأت تنخفض وكذلك حصص المستودعات، ومن هنا حصلت الأزمة».
يضيف «أشرف»، الذى اضطرته فترة التوقف تلك إلى الإنفاق على أسرته المكونة من 5 أفراد من مبلغ مالى وصفه بالبسيط كان يدخره: «من أسبوعين كنا بندلل على الأنابيب علشان نوزع حصتنا اليومية، ودلوقتى مش لاقيين أنبوبة واحدة».
حديث «أشرف» يؤكده محمد سرور، مدير إدارة تموين العامرية، الذى حضر فى حوالى الواحدة ظهراً إلى المخزن للاطمئنان على الأوضاع داخله، بقوله: «الأزمة تحت السيطرة وأرقام حصص المستودعات الواردة إلينا تشير إلى انتهائها خلال يومين على أقصى تقدير».