فتى صغير في الرابعة من عمره، اعتاد الذهاب إلى مدرجات فيسنتي كالديرون مع جده، وقبل أن يتعرف على أي من حدود العالم من حوله.. عرف ذلك الفريق الذي يحمل اسم المدينة ويُسمّى «أتلتيكو».
يمكنه تأريخ سني صباه كلها بموقع فريقه في الدوري، يربط تلقائيًا بين بدئه لعب كرة القدم بشكل شبة احترافي في دوري الأحياء.. وبين احتلال أتلتيكو وصافة الليجا الإسبانية موسم 90-91، يتذكر بفخر أن العام الذي انتقل فيه للنادي وهو في عمر الحادية عشرة.. هو نفسه موسم الثنائية التاريخية 95-96، لا يمكن الفصل بين إصابته بشكلٍ خطير في قدمه وهبوط أتلتيكو للدرجة الثانية في 99-2000، أو أن الموسم الذي بدأ فيه اللعب مع الفريق الأول- وهو لم يزل في السابعة عشرة- هو موسم الصعود من جديد إلى الدوري عام 2002.
ومنذ تلك النقطة تحديدًا.. صار هو نفسه جزءًا من تاريخ النادي الذي يعشقه، وصار النادي هو سيرته الشخصية كلها، «كانت حكاية مثالية، تمامًا كالحواديت، أن أنتقل من مقعد المشجع لأصبح لاعبًا»، تلك الفرصة التي تتاح نادرًا في تحويل الصراخ إلى عرق. والشاب الصغير لم يدخر جهدًا لذلك، وفي سن الـ18 سجَّل لأتلتيكو مدريد 19 هدفًا في موسم 2003-2004، ليصبح ثالث هدافي الدوري وراء رونالدو مهاجم ريــال مدريد وخوليا باتيستا لاعب سيلفيا.
وفي موسم 2004-2005، أصبح فيرناندو توريس، وفي التاسعة عشرة من عمره فقط، هو قائد نادي أتلتيكو مدريد، والموهبة الشابة الأعظم في إسبانيا، ومن ينتظر له أن يكون أفضل مهاجم في العالم خلال وقت قريب. رمز الفريق ولاعبه الأهم، لذلك لم يكن من الغريب رفض عرض بـ30 مليون يورو من ملياردير روسي يدعى رومان إبراموفيتش يريد بناء فريق قوي في تشيلسي، حيث صرح إنريكي سيريزو، رئيس أتلتيكو وقتها، بأن «توريس هو روح الفريق، لن نقبل بيعه بأي ثمن».
في غضون عامين فقط تغيرت المعادلة،وافق «سيريزو» على بيع «توريس» لنادي ليفربول في مقابل 25 مليون يورو، بالإضافة إلى اللاعب لويس جارسيا، وذلك في ظل خطة تدعيم الفريق بلاعبين آخرين مثل الموهبة الأرجنتينية «كون أجويرو»، أو هداف الليجا السابق «دييجو فورلان».
المسافة الفاصلة بين تلك اللحظة في حياة «توريس» وبين مطلع عام 2015 تبدو الآن طويلة جدًا، بدأت من القمة عام 2008، حين صار فعلًا أفضل مهاجم في العالم، والثالث في سباق «الكرة الذهبية» وراء رونالدو وميسي، تلك المسيرة المدهشة مع ليفربول بعد أن أصبح معشوق الجماهير، والشخص الذي تعلق عليه الآمال في إعادة لقب الدوري من جديد بعد 20 عامًا، قبل أن يبدأ مستواه فجأة ودون مقدمات في الانحدار بسرعة، رومان إبراموفيتش مالك تشيلسي جدد عرضه للحصول على توقيع «توريس» بعد 5 سنوات من المرة الأولى، وفي هذه المرة بـ50 مليون يورو، كأغلى صفقة في تاريخ الدوري الإنجليزي، صفقة مدوية جرت في 27 يناير 2011.. وبعد 5 أيام فقط من لعبه آخر مباراة في الأنفيلد، ومنذ ذلك الوقت.. تحول الذي كان «أفضل مهاجم في العالم» قبل وقت قصير إلى عالة دائمة على فريقه الجديد، تغيرت أسماء المدربين واللاعبين وأساليب اللعب، وظل «توريس» بشكل مستمر هو أضعف حلقة في تكوين تشيلسي، لدرجة تسجيله 20 هدفًا فقط في 110 مباريات لعبها خلال السنوات الصعبة التي قضاها هناك، والتي انتهت أخيرًا بعد قرار إعارته- المجانية!- لميلان في صيف 2014، وهو وضع لم يحسن من مستوى«توريس» بأي صورة، إذ قضى في إيطاليا 4 أشهر لا تقل سوءًا عن سنواته الأخيرة في إنجلترا، لم يحرز إلا هدفا واحدا في 10 مباريات لعبها، وفجأة صار عجوزًا في الثلاثين، مجرد ذكرى مشوهة لموهبة كانت عظيمة قبل وقت بعيد.. ليقرر ميلان إعارته إلى أتلتيكو.. موطنه الأول، وسط توقعات بأن ما من شيءٍ قد يعود لما كان عليه.
ولكن «العودة إلى البيت لا تشبه أي شيء آخر»، وفي الوقت الذي نساه فيه الجميع.. وجد 45 ألف مشجع في انتظاره في فينستي كالديرون عند الرجوع، يصرخون باسمه، تمامًا كالأيامِ القديمة، لم يعد القائد أو الملهم أو اللاعب الأهم، صار أبطأ وأقل قوة ومهارة، ولكنه ظل ابنًا، وظلوا هم الأهل والرفقة والشغف والعمر القديم كله.
لا يعني الأمر أنه سيعود واحدًا من أفضل مهاجمي العالم، أو أنه قادر على مُغالبة الزمن واستعادة ما فقده من سرعة وقوة ومهارة، ولكن المؤكد أن شيئًا من روح فيرناندو توريس قد استعيد في ملعب فينستي كالديرون وبين جماهير أتلتيكو مدريد، وبغض النظر عن أي مما سيحدث.. فإن ليلته تلك في المدينة خلال الديربي.. هي واحدة من أجمل ليالي حياته.. وذكرى لن ينساها أبدًا، كأن روح الفتى الذي كانه منذ 10 سنوات قد عادته من جديد.