أشعر بحزن عميق يجرنى إلى سراديب الاكتئاب، وأنا أتابع الأحوال العجيبة في هذا البلد.
أحيانا ألمس إمكانية النهوض، فأصدق تصريحات المسؤولين، وأرى الإخلاص والوطنية في العيون، وأفرش الطريق إلى المستقبل بسجاجيد الأمل الوردية، لكننى سرعان ما أصطدم بالواقع المخزى، وأتمتم مكسورا وحزينا: مفيش فايدة.. ملعون أبوها بلد.
رئيس الوزراء يبتسم بأريحية وهو يتحدث عن جهود حكومته: «نحن نبذل أقصى ما لدينا لكى نسعد هذا الشعب، بس محتاجين من الشعب شوية صبر».
في إحدى المدن الصغيرة بأعماق الدلتا جلس الأستاذ محمود القرفصاء بجوار دراجته، أشعل سيجارة وهو يتأمل سلوك الجموع المحتشدة أمام مستودع أنابيب البوتاجاز، نفث محمود (46 سنة مدرس تاريخ) دخان السيجارة لأعلى، وهمس في نفسه ساخرا: الصبر.. آه الصبر، 5 آلاف سنة صبر مش كفاية، لسه مشوارنا طويل، مدرس ومربى أجيال يجرى بالعجلة من هنا لهناك عشان أنبوبة، كأننا رجعنا لما قبل التاريخ.
يكمل رئيس الوزراء حديثه عن ترتيبات المؤتمر الاقتصادى: الخير جاى، وعندنا خطة إصلاح عظيمة على المدى المتوسط.
يمسح محمود الحصى على جانب الطريق براحة يده ويفترش الأرض غير عابئ بتلوث جلبابه الأبيض، ويكمل سخريته: المفروض نخبط زلطتين في بعض ونتعلم اختراع النار.
على مائدة العشاء مع عدد من الوزراء ورجال الأعمال يفك رئيس الوزراء ربطة العنق، ويدسها في جيبه ثم يعرب عن سعادته بتحمل الحكومة للمسؤولية الجسيمة، ودعم رجال الأعمال الوطنيين لمسيرة الإصلاح الاقتصادى.
يشد محمود نفساً أطول من السيجارة، ثم ينظر بعينين باهتتين نحو السماء.
يشيد رئيس الوزراء بالإنجازات الكبيرة التي تحققت، ويبشر بإنجازات أكبر سوف تتحقق بعد نتائج المؤتمر الاقتصادى المقبل مع الربيع: نحن نحتاج 15 مليون دولار لتغطية نفقات الاستضافة.
محمود: يعنى أكثر من 100 مليون جنيه.
رئيس الوزراء: إحنا هنعمل مؤتمر ضخم يضم 3 آلاف مستثمر من أنحاء العالم، ونأمل أن نرفع العدد إلى 5 آلاف.
محمود: يعنى هنصرف على المستثمر الواحد 3 آلاف دولار بس.. يابلاش.
رئيس الوزراء: طبعا الحكومة بتفكر بشكل عصرى، ومش عاوزين نحمل الدولة أعباء، هنتفق مع شركة تسويق دولية ورعاة لتحمل جزء كبير من نفقات المؤتمر، بحيث تحصل مصر على عوائد عالية بأقل تكلفة.
تقع «طفية» السيجارة على جلباب محمود، فيهب واقفا وهو ينفض جلبابه بيده.
يقول رئيس الوزراء إن المؤتمر سيكون نقطة انطلاق رئيسية في برنامج الإصلاح الاقتصادى المعروف باسم مصر المستقبل.
يضحك محمود وهو يردد «لزمة» حسن أرابيسك: آه.. فتح انطلاقة.
يصفق رجال الأعمال فيسخن رئيس الوزراء، وتواتيه الشجاعة لنطق المصطلحات «المكلكعة» المدونة في الأوراق التي أمامه: استراتيجية مستدامة للتنمية، تلبية احتياجات الشرائح المجتمعية لاسيما الأقل حظًا، وديناميكية القطاع الخاص، والثقة الشعبية، والمناخ المشجع للاستثمار في هذه اللحظة التاريخية.
الله.. الله..
هكذا قال محمود وهو يسأل رئيس وزراء مصر المستقبل: ألاقيش عندكو أنبوبة، وللا هنستثمر بسكويت ولبان؟
ينظر رئيس الوزراء في الورق أمامه ويقرأ دون أن يرفع عينيه: الحكومة «أوشكت» على الانتهاء من تحديد استراتيجيات القطاعات الرئيسية التي تشمل الغاز والبترول والتعدين والكهرباء والإسكان والزراعة والسياحة والصناعة والتصنيع والنقل والخدمات اللوجستية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
يعلق محمود وهو يسحب دراجته عائدا لبيته بأنبوبته الفارغة: أوشكت؟!.. الحمد لله أنها أوشكت.
في البيت تسأله زوجته بفرح: جبت الأنبوبة يا أبو محمد؟
يرد عليها وهو يسند الدراجة إلى الحائط: الأنبوبة أوشكت ياولية، اعمليلى كوباية شاى على الخدمات اللوجستية.
جمال الجمل