الحريةُ قيمةٌ عظيمةٌ. وأوروبّا لها سجلٌّ مشكورٌ فى تحرير نفسها، فى تحرير ضميرها، فى تحرير عقلها. ولها سجلٌّ موازٍ فى استعباد غيرها، وفى استرقاق مَن سواها، وفى استعمار كل شعوب الأرض.
على مدى قرنين من الزمن، ونحنُ- أبناء المستعمرات- نولّى وجوهنا شطر أوروبّا، لنتلقى أنوار الحرية من هناك، ثم نعود لنكافح قيود الاستعمار والهيمنة واللصوصية والتضليل الأوروبى هُنا وعلى أرضنا.
عندما وقعت مجزرةُ باريس 7 يناير 2015م، لم يضربنا أحدٌ على أيدينا حتى نُدين الإرهاب، وسوف نظل ندينه. ولم يضربنا أحدٌ على أيدينا حتى نقدم العزاء فى أرواح صحفيين ومواطنين فرنسيين اغتالهم رصاصٌ غادرٌ. ولكن- كنا ومازلنا- نود لو تفهم فرنسا، ولو تفهم أوروبا، ولو يفهم الغرب كله، ما يلى:
أولاً: أوروبا ومعها الغرب كله، مازالت تفهم الحرية حقاً لها وحدها، وامتيازاً لها وحدها، تعتقدُ أنها الأرشد فى هذا الكون، ومن ثم تعتقد أنها المسؤولة عنه، فهى صاحبة الحق فى تعيين الخطأ وفى تعيين الصواب، يعنى هى- وحدها- المعيار لكل شىء، والقياس لكل شىء، والحكم على كل شىء. ومن ثم علينا- نحن أبناء المستعمرات- أن نبصم على ما تقول، وأن نبكى فى جنائزها، وأن نرسم صور شهدائها على نواصى شوارعنا باعتبارهم شهداء الحرية الإنسانية، وأن نصطف- فى مشرق الكون ومغربه ومن شمال العالم وجنوبه- لنحمى أمن أوروبا من الهمجية والوحشية والبربرية، إلى آخر هذا القاموس الحامض.
ثانيا: أوروبا ومعها الغرب كله مازالت تفهمُ العدالة والكرامة الإنسانية على نحو مزدوج، فالعدالةُ هى عدالةُ الأقوياء، والكرامةُ هى كرامةُ الأغنياء، ولاتزال القوة والثروة هى عقيدةُ أوروبا، وهى قيمها، وهى أخلاقها، وهى أساس التعاقد الاجتماعى الذى يربط الغرب بكل من سواه من الثقافات والحضارات والأعراق والأجناس. بما يعنى أن يظل الإنسان الأوروبى، والإنسان الغربى، هو الإنسان الأنموذج، هو الإنسان المتحضر، هو الإنسان المعيارى، الذى على كل إنسان آخر أن يسلك خطاه حتى يكون له وجودٌ تابعٌ، وإلا فإن الإنكار جزاؤه، وفى نهاية الطريق فإن الفناء نهايته. والعدم- الإعدام المعنوى- هو مصيره الحتمى.
ثالثاً: فرنسا، التى خنعت وخشعت وخضعت أمام وقاحة رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، وهو يخاطبها- فى غرور وفوقية وصلف- كما لو كان كبير اليهود فى العالم، وكما لو كان عُمدة اليهود فى أوروبا، وكما لو كان حامى حمى اليهود فى فرنسا.. لم تجد- بين طبقتها السياسية الحاكمة- من يرد عليه بوضوح وشجاعة بأن يهود فرنسا- أقل من 600 ألف وأقل من 10% من مسلمى فرنسا الذين يزيدون على 6 ملايين مسلم- هم مواطنون فرنسيون، وليسوا مواطنين إسرائيليين، وأن فرنسا لا تقبل أن يحدثها رئيس وزراء إسرائيل فيما ينبغى أن تفعل فى شأن من شؤونها الفرنسية الداخلية.
رابعاً: هى فرنسا، بل هى أوروبّا بكاملها التى تخنس- فى مذلّة- أمام هذا الابتزاز الإسرائيلى، الذى يُهين قادة أوروبّا أمام أنفسهم وأمام مواطنيهم، ويلعب بورقة اليهود الأوروبيين فى المعترك الانتخابى الإسرائيلى الذى يستعد لخوضه نتنياهو فى مارس المقبل، وهى تعلم أن نتنياهو يريد أن يقول إن أوروبا غير قادرة على حماية مواطنيها، وإن إسرائيل- بكل صراحة- هى وطن كل يهودى مازال يقيم فى أى مكان من أوروبا.
وهى دعوة صريحة لتفريغ أوروبا مما يمثله مواطنوها اليهود من تنوع عقائدى، وما يمثلونه من كفاءات علمية وعقلية فى العلوم والآداب والفنون، فضلاً عن البيزنس والبنوك وكل مناحى النشاط الاقتصادى.
خامساً: أوروبا التى ضعفت أمام نتنياهو وذهبت لاسترضاء مواطنيها اليهود بكل سبيل ممكن- ونحن لسنا مع أى أذى ينال أى إنسان- فشلت كل الفشل فى أن تسمع دعوات المسلمين حول العالم، الذين يعترفون بقيمة الحرية الأوروبية، وفى الوقت ذاته، يؤمنون بأن الحرية الأوروبية عليها أن تحترم عقائد الآخرين، احترام العقائد هو جزء من استعداد الإنسان للتعايش الكريم مع الآخرين. المسلمون- مثلهم مثل المسيحيين، مثل أصحاب الديانات غير السماوية فى الثقافات الشرقية- لا يقبلون، ولن يقبلوا بإهانة مقدساتهم فى سبيل استرضاء مزاج الحرية الأوروبية.
من يتابع ردود الأفعال الأوروبية، من مظاهرات قادة أوروبا- التى تشبه مظاهرات القذافى- إلى المعالجات الصحفية، يكتشف الكم المفزع من سطحية العقل الأوروبى الذى يلهو بمسألة الحرية كما يلهو الطفل بلعبته. لا يوجد من يقول لهم: الحرية مسؤولية، لا يوجد من يقول لهم احترام عقائد الشعوب لا يتناقض مع الحرية، لا يوجد من يقول لهم العقل الأوروبى فى غيبوبة سوف يفيق منها على الصدمات بعد أن تتهشم رأسه.
عقليةُ الأطفال: تعنى الحرية المطلقة، تعنى التهرب من المسؤولية، تعنى ردود الفعل العصبية والمزاجية، تعنى عدم القدرة على التمييز بين الخيوط الفاصلة بين الأشياء.
خُلاصةُ الكلام: الاستهزاءُ بعقائد المسلمين تراث أوروبى قديم، لم تتطهر منه العقلية الأوروبية المريضة، مع فارق أن هذه الأمراض العقلية كانت فى العصور السابقة حبيسة دوائر الاستشراق، وفى زمن تكنولوجيا الاتصال الجماهيرى خرجت إلى أوسع دوائر العلانية والانتشار.