x

أنور الهواري قبائل أم نظام عالمى جديد؟! أنور الهواري الأحد 11-01-2015 21:21


دون لفٍّ أو دوران، ما تراه أمامك ليس نظاماً عالمياً قديماً كان أو جديداً، ما تراه أمامك هو نوعٌ من الفوضى العالمية، تنتكسُ بالإنسانية إلى الارتداد الجماعى نحو نمط جديد من أشكال «القبلية الحديثة».

هذه هى أوروبّا- أمامك- تظهرُ فى مشهد غاضب عنيف، ولأنها أوروبّا- القبيلة الأعزّ- فإن العالم كله يغضبُ لغضبها، أو- على الأقل- يتظاهرُ بالغضب لغضبها، المشهدُ يذكرك بشاعر العرب الكبير «جرير»، المتوفى 110 هجرية 728 ميلادية، وهو من أشعر العرب، ولد ومات فى اليمامة، ولم يثبت أمام موهبته الضخمة غير الفرزدق والأخطل، يقولُ جريرٌ:

«إذا غضِبت عليكَ بنو تميمٍ، حسِبتَ الناسَ كُلهَّم غِضاباً».

قادةُ العالم الكبار يهرعون إلى التظاهُر فى شوارع باريس، تحت تأثير الصدمة الكبرى، التى خطط لها مُتطرفون- بلا حيثية من أى نوع- يسكنون بطون الجبال فى مجاهل اليمن، ويحركون- بالريموت كنترول- مواطنين فرنسيين، ليقتلوا مواطنين فرنسيين مثلهم، تحت دعوى الإساءة إلى النبى الكريم (ص)، وهُنا يلزمنا إيضاح عدة ملاحظات:

أولاً: الإساءةُ إلى النبى مُحمَد- مثلها مثل الإساءة إلى كل الأنبياء والمرسلين- سلوكٌ بشرى قديمٌ وجديدٌ فى الوقت ذاته، حدث فى حياة الأنبياء، من أقرب الأقربين ومن أبعد الأبعدين، وفى حالة نبى الإسلام فإن الإساءة جاءته من ذوى عصبيته، ومن أبناء عمومته، ومن حاسديه قديماً.

وفى العصر الحديث، فإن الإساءة إلى نبى الإسلام تأتى ممن يزعمون اتباعه، ومن محبيه، ومن المؤمنين به، أكثر مما تأتى ممن لا يفهمونه، وممن لا يؤمنون به. وعندنا، ومن الاستقامة العقلية ما يكفى لأن نقول هذا بوضوح شديد: نعم، الإساءةُ إلى محمد (ص) هى- فى أكثرها- تأتى من المنتسبين إليه، أكثرَ بكثير من الإساءات الصادرة عمن لا ينتسبون إليه.

ثانياً: لكن- فى الوقت ذاته- نرجو أن يكون عند فرنسا وعموم أوروبا والغرب القدر ذاته من الشجاعة العقلية، لتعترف- ليس بالإساءة إلى نبى الإسلام (ص)- فهذه سوف أوافقكم وأضعها تحت بند حرية الفكر وحرية التعبير، وسوف أشارككم الدفاع عنها، وسوف أدين- اليوم وغداً- أى عدوان عليها، ندينه بكل صراحة ووضوح، ولكن- فقط- أرجوكم الانتباه إلى الإساءة الأكبر، الإساءة إلى أنفسكم، الإساءة إلى مبادئكم، الإساءة إلى ما يقرب من 10% من مواطنيكم، الذين يحملون جنسيتكم، ويتحدثون لغتكم.

ثالثاً: جوهرُ الأزمة هو الإساءة الماديةُ، هو الإساءةُ الدنيويةُ، هو سوء الظروف المعيشية لأكثر من 6 ملايين مواطن فرنسى يدينون بالإسلام، يعيشون فى مستويات أدنى، يعانون التمييز، محرومين من الاندماج الكامل فى الحقوق والواجبات، يعيشون تحت معادلة قاسية: طرفُها الأول هو التهميش المادى، وطرفها الثانى هو التحقير المعنوى.

رابعاً: الأقلية المحظوظة من الأوروبيين المسلمين، الذين أتاحت لهم الظروف تعليماً أفضل وأوضاعاً ماديةً أرقى، هؤلاء ليسوا على استعداد- تحت أى ظرف- لسلوك التطرف أو ممارسة العنف، وتعميم أنموذج هؤلاء ليشمل الأغلبية من المسلمين الأوروبيين أفضل من تعميم حالة الفزع من كل ما هو مسلم، بصورة تُزيل الفوارق بين المعتدلين المسلمين- وهم مازالوا الأغلبية- والمتطرفين منهم وهم أقلية قابلة للزيادة.

خامساً: أتفهم أن تتظاهر الشعوب الأوروبية، وأن تفزع للدفاع عن منظومة القيم التى تؤمن بها، وعن منظومة الأمن الوديع والرفاهية المستقرة التى تعيش فى ظلالها داخل حدود القارة الآمنة، لكن- بكل وضوح- لا أتفهم أن يتصدر القادة الأوروبيون- من باب الانتهازية الانتخابية أو من باب الصدمة الصادقة- هذه المظاهرات والمسيرات، وذلك لعدة أسباب:

السبب الأول: أن التظاهر الشعبى حق للمواطنين، أما القادة السياسيون فواجبهم هو التفكير والتدبير والقرار وصناعة البدائل ورسم السياسات الكفيلة بتلبية حاجة المواطنين إلى الأمان الكامل فى بلدانهم.

السبب الثانى: أن بعض هؤلاء القادة هو المسؤول- دون سواه- عن التقصير الأمنى والاجتماعى والسياسى، الذى أدى- فى نهاية المطاف- إلى هذه المجزرة الدامية للحرية فى فرنسا.

السبب الثالث: أن بعض هؤلاء القادة السياسيين ملوثةٌ أيديهم بدماء الأبرياء فى عواصم لا حصر لها، من كابول، إلى بغداد، إلى دمشق، إلى صنعاء، إلى طرابلس وبنغازى.

السبب الرابع: أن هؤلاء القادة السياسيين- منهم حاليون ومنهم سابقون- يتنصلون فى هذه المظاهرات ويغسلون أيديهم وأيدى حكوماتهم عما لحق العالم من فوضى أمنية وإرهاب مسلح، يقوض النظام العالمى من جذوره، ويضع العالم- بأكمله- على عتبات مرحلة من الفوضى تضربُ أطنابه من كل اتجاه.

السببُ الخامس: ما أشار إليه بوضوح رئيس الوزراء الفرنسى الأسبق دومينيك دوفيلبان- وهو رجل دولة وشاعر ومثقف- حين قال فى تصريحات بالأمس: «إن السياسات الأوروبية المتغطرسة والمتقلبة والمتناقضة زادت بؤر الإرهاب من بؤرة واحدة فى أفغانستان إلى خمس عشرة بؤرة فى الوقت الراهن، وإن (داعش) هى مولود مشبوه لهذه السياسات، وإن هذا الإرهاب هو بعضٌ من حصاد الغزو المتهور للعراق 2003م وما تلاه من حروب دينية فى الشرق الأوسط بعد تسليم العراق لحاكم شيعى متطرف هو (نورى المالكى)».

خُلاصةُ الكلام: إن حصاد 25 عاماً من الغزوات الأمريكية- الأوروبية التى لم تنقطع، من حرب تحرير الكويت 1990م إلى اليوم، قوضت النظام الإقليمى، وقوضت أركان الدول، وحولت الشرق الأوسط إلى خليط من القبائل المتصارعة، وهذه «القبليةُ المستحدثةُ» تزحفُ على أوروبّا، من أوسع الأبواب.

أولى بقادة أوروبا ألا يتاجروا بغضب شعوبهم، وأولى بهم أن يعودوا إلى الدور الأوروبى الأصيل، فى هندسة نظام عالمى أكثر عقلاً، وأوفرُ عدلاً.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية