فكرة لا تلقى هوىً في نفس متشددة، قد تردي صاحبها قتيلاً، هكذا علم التاريخ البشرية من حوادث رويت في الآثر، كان منها ما قال عن الحسين بن منصور الحلاج وأبي الطيب المتنبي، أن أولهما قُتل بسبب عقيدته وأفكاره والثاني بسبب أشعاره، في وقائع تسجل للمواجهات بين التطرف وحرية الفكر.
تلك الوقائع وإن كانت تعود لماضي بعيد، إلا أنها وجدت لنفسها في الأسبوع الماضي، من الشهر الأول للعام الخامس عشر في الألفية الثالثة، شبه بمقتل 10 من رسامي كاريكاتير صحيفة «شارلي إيبدو» الفرنسية على يد متطرفين بدعوى «الدفاع عن الإسلام» ضد أفكارهم «المسيئة» له.
حادث «شارلي إيبدو» الإرهابي، انعكاس لأزمة الفكرة في أزمنة ومجتمعات تختلف في طبيعتها ومكوناتها وتتشابه في النتيجة النهائية من اصطدام المتشدد بالمفكِّر، كما حدث منذ زمن قُتِلَت فيه الفيلسوفة هيباتيا، وحُرِقت كتب «ابن رشد»، وصولاً لعصر حديث شهد قبل مهاجمة «شارلي»، محاكمة المفكر الفرنسي روجيه جارودي بتهمة معاداة السامية، وتكفير طه حسين وقتل فرج فودة ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ وإهدار دم سلمان رشدي وإبعاد نصر حامد أبوزيد عن بلده، وحرمان حيدر حيدر من وصول روايته للقراء، في أحداث وإن اختلفت تفاصيلها إلا أن منبعها واحد وهو «فكرة لم تلق هوى في نفس متشددة».
نجيب محفوظ
«أستغفر الله».. كانت إجابة ينفي فيها الرجل الذي حاول اغتيال الأديب نجيب محفوظ في 1995، على سؤال حول ما إذا كان قرأ لضحيته أية أعمال، قبل أن يقدم على مهمته التي «شرّفته» بها الجماعة الإسلامية، ونفذها بطعن في الرقبة.
نجيب محفوظ، الأديب المصري الحاصل على جائزة نوبل في 1988، كاد بسبب روايته «أولاد حارتنا»، أن يُردى قتيلاً على يد محمد ناجي، فني الأجهزة الإلكترونية، القارئ المطلع لكتب عن الجماعة الإسلامية وأقطابها كعمر عبدالرحمن، وعبود الزمر.
فرج فودة
«لأنه كافر».. هذا ما رد به أحد المنتمين، على الأقل فكريًا، للجماعة الإسلامية، كسبب لقتله المفكر فرج فودة، أما كيفية أو حيثيات الحكم على المفكر الراحل بالكفر فالقتل رميًا بالرصاص، لاتزال غير معروفة، لكنها ومهما تعددت لن يكون منها أبدًا تقييم أعمال «فودة» التي لم يطّلع عليها القاتل من الأساس، لأنه «أمي، لا يقرأ ولا يكتب» بحسب قوله للقاضي أثناء المحاكمة.
وفي 8 يونيو 1992، كان «فودة»، الذي لم تهاجمه الجماعات فقط بل كفّرته «جبهة علماء الأزهر»، يسير في شارع أسماء فهمي بمدينة نصر، عقب دقائق من خروجه من مقر «الجمعية المصرية للتنوير»، التي أسسها، ليواجه طلقات رصاص لم يكن بعدها لمحاولات الأطباء لإنقاذ حياته، على مدار ساعات ست، أي جدوى.
نصر حامد أبوزيد
«دعا نصر حامد أبوزيد إلى الثورة الفورية على القرآن والسنة، بعد أن اعتبرها نصوص دينية تكبل الإنسان وتلغي فعاليته وتهدد خبرته، ويقول على القرآن إنه منتج ينتمي إلى ثقافة البشر، وقرر أن الإسلام دين عربي، وليس له مفهوم موضوعي محدد، وهاجم في أبحاثه علم الغيب».. الدكتور عبدالصبور شاهين، معلنًا في حوار صحفي أسباب رفضه لأبحاث «أبوزيد» وتكفيره، الأمر الذي نفاه «شاهين» فيما بعد، وهو الرفض الذي فُتِح من بعده على نصر أبوزيد «أبواب الجحيم».
رفض لأبحاث، فقضايا حسبة وحكم بالتكفير والردة ومطالب بالتوبة، فحرمان من المنصب الأكاديمي، ودعوى تفريق عن الزوجة، فهجرة إلى منفى.. هذا ملخص لما لاقاه الدكتور «أبوزيد»، أستاذ اللغة العربية بجامعة القاهرة، ردًا على أبحاثه ومؤلفاته في الفكر الإسلامي، ومنها «الاتجاه العقلي في التفسير.. دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة»، و«التفكير في زمن التكفير» و«نقد الخطاب الديني».
سلمان رشدي
كاتب هندي الأصل، بريطاني الجنسية، اشتهر اسمه مقترنًا بكلمتين هما «آيات شيطانية»، عنوان روايته التي نشرها أواخر ثمانينيات القرن الماضي، تحديدًا 1988، وكانت لما تضمنته من محتوى صُنِف في خانة الهجوم على الدين الإسلامي، سببًا في صدور فتوى من المرجع الشيعي آية الله الخميني بإهدار دمه.
يعيش «رشدي» في المملكة المتحدة، التي لم تمنحه جنسيتها فقط، بل ومنحته عام 2012 وسام «فارس»، الأمر الذي أجج الغضب في دول عربية وإسلامية ضد بريطانيا «لتكريمها شخص يسئ للإسلام».
عاود «رشدي»، (67 سنة)، على الرغم من التهديدات، تناول قضايا الإسلام من منظوره الخاص كشخص يعتبر الأديان «أفكار تستحق النقد»، فأصدر في 2005، وبعد سنوات قلائل من هجوم 11 سبتمبر، رواية «شاليمار المهرج» لتصبح و«آيات شيطانية» لما أثاره من جدل الأشهر بين أعماله.
حيدر حيدر
في ختام الألفية الثانية، تداولت المواقع الإخبارية قرار صادر عن وزارة الثقافة المصرية بسحب رواية «مثيرة للجدل» من الأسواق، بعد انتقادات الإسلاميين لها لسماحها بنشرها.
الرواية كانت «وليمة لأعشاب البحر» التي وصف المحتجون عليها كاتبها حيدر حيدر بأنه «سلمان رشدي جديد»، صادرة عام 1983، وحينما أعادت مصر طباعتها لم يُباع منها قبل إعادتها إلى مخازن وزارة الثقافة سوى ألف نسخة فقط، كانت سببًا في تظاهر آلاف الطلبة بالقرب من جامعة الأزهر ضد العمل الأدبي «المتطاول على الات الآلهية، والمسئ للإسلام».
الحلاج وابن رشد.. وشكسبير وجراس
لم تقتصر أزمة الفكرة مع المتشددين على الوقت الحالي الذي يشهد تنامي جماعات متشددة بأفكارها الأصولية في مناطق مختلفة من العالم، فهو قديم بدرجة كافية لأن يدفع «الحلاج» حياته ثمنًا لمعتقداته وآرائه التي اتهم بسببها بـ«الكفر»، وأن تُحرّق كتب ابن رشد، ويكون عميد الأدب العربي طه حسين أحد ضحايا «التفتيش في الأفكار والنوايا»، بسبب كتابيه عن الشعر الجاهلي وأبوالعلاء المعري، واللذين مازال البعض يستدعيهما في محل الهجوم عليه واتهامه بـ«الكفر والتجديف».
وفي بعض الحالات، كان كلاً من صاحب الفكرة ومهاجمه أبناء لمجتمع واحد، كما كان على سبيل المثال من مهاجمة صحيفة ألمانية مواطنها الأديب جونتر جراس، الفائز عام 1999 بجائزة نوبل للأداب، ووصفته بأنه «العدو الأبدي للسامية» بسبب قصيدته الصادرة عام 2012 بعنوان «ما يجب أن يقال»، التي وصف فيها إسرائيل بأنها «تهدد السلام العالمي»، فردت الأخيرة بمنعه من دخول تل أبيب والمطالبة بسحب جائزة نوبل منه.