هناك أسباب غير مفهومة تدفع المسلمين لتكريم من يسيء إلى دينهم وخدمته إلى أقصى حد.. مثلًا هل تذكرون أزمة «الفيلم المسيء» للإسلام على موقع يوتيوب منذ عامين؟.. لهذا الفيلم قصة وثيقة للغاية بالاعتداء الإرهابي على مجلة «تشارلي إبدو» الفرنسية وقتل صحفييها.
القصة أن يوم 2 يوليو 2012، نشر شخص مقيم بأمريكا على موقع يوتيوب فيديو مسيئًا للإسلام وللرسول محمد عليه الصلاة والسلام تحت عنوان ساخر هو «براءة المسلمين».
الفيديو كان رديء المستوى وفقير الإنتاج، طبقًا لوصف الصحف الغربية، مثل وورلد ستريت جورنال والديلي ميل، وغالبًا أراد صاحبه أن ينتج فيلمًا، لكنه اكتفى بتصوير لقطات غير مترابطة لا ترقى لوصف «فيلم»، ولمدة شهرين كاملين لم يحقق الفيديو أكثر من بضعة آلاف من المشاهدات، وهو رقم متدنٍ يستطيع أي طفل تحقيق أضعافه في 24 ساعة.. هذا الفيديو المغمور كان بلا تأثير.. حتى قرر أحدهم نشر خبر عنه في العالم العربي.
فجأة.. وبعد أن مر شهران كاملان على النشر، صار الفيديو الذي لم يره أحد تقريبًا هو حديث الملايين في العالم الإسلامي.
وخلال أيام قليلة، اندلعت مظاهرات عارمة في مصر والعالم الإسلامي، وكالعادة تم إحراق علم أمريكا وتوجيه اللعنات للغرب، كما سقط مصابون هنا وهناك نتيجة التدافع ومحاولات الحكومات تفريق المتظاهرين، وتناقلت وكالات الأنباء الأخبار لينشغل العالم بالموضوع لبضعة أسابيع، وانتهى الأمر باستغلال مجموعة إرهابية للأمر بالتسلل وسط المتظاهرين في ليبيا واغتيال السفير الأمريكي.
وكالعادة أيضًا، انتهى الغضب الإسلامي إلى عدم القيام بأي فعل إيجابي للتعريف بالإسلام وقيمه، بل كانت النتيجة هي تقديم أكبر خدمة لصاحب الفيديو، لأن مرات مشاهدة الفيلم المزعوم قفزت من بضعة آلاف إلى 4.5 مليون مشاهدة خلال 10 أيام فقط.
والأدهى أن مطالبة الحكومات لـ«يوتيوب» بحذف الفيديو شجعت البعض على تحميله وإعادة نشره، مما أدى إلى مشاهدته أكثر من 20 مليون مرة إضافية، وذلك طبقًا لإحصاءات «يوتيوب». (طالع تقريرًا عن إحصاءات الفيديو هنا).
كل ذلك بخلاف حملات التضامن التي خرجت للدفاع عن المنتج الذي تبين أنه جمع أموالًا بهدف تقديم الفيلم دون أن يكمل عمله وخدع الممثلين، ليصبح ذلك الشخص المتطرف والمتهم بالنصب بطلًا نتيجة التهديدات بالقتل التي نالته من جانب بعض المتعصبين.
هذه القصة تكررت بحذافيرها مع جريمة الاعتداء على «تشارلي إبدو» التي نالت استحسان البعض في العالم الإسلامي باعتبارها انتقامًا لإساءات المجلة للإسلام، لكن في واقع الأمر صارت الجريمة أكبر خدمة للمجلة وأسوأ إهانة للإسلام.
مجلة «تشارلي إبدو» عانت منذ نشأتها عام 1970 في إيجاد تمويل لها لدرجة أنها توقفت عن الصدور عام 1981 لمدة 11 عامًا ولم تكن توزع أكثر من 50 ألف نسخة مؤخرًا، وهو رقم ضئيل للغاية في فرنسا إذا عرفنا أن منافسيها كصحيفة «لو كانار أونتشين» توزع نصف مليون نسخة، كما أطلقت «تشارلي إبدو» حملة لجمع تبرعات في نوفمبر الماضي، طبقًا لمؤسسة فوجس الإعلامية.
المجلة لم تتمتع بشعبية كبيرة، لأن استخدامها لحقها في «حرية التعبير» كان يستهدف السخرية من المتطرفين من كل الأديان، وعلى رأسها الإسلام، ولكن خلال تنفيذ مهمتها كانت تؤذي مشاعر ملايين المسلمين الفرنسيين، وهو عمل قاسٍ لأن المسلمين في فرنسا أقلية غير ممثلة جيدًا في الإعلام وينتمي معظم أفرادها للطبقات الفقيرة وتعاني من التمييز والعنصرية في كثير من الأحيان مثل كل جماعات المهاجرين.
لكن مع وقوع الهجوم الوحشي على المجلة، تمكن الإرهابيون من عكس الوضع تمامًا، ليتعاطف العالم مع كُتاب ورسامي المجلة بصورة مذهلة، حتى إن موقع تويتر سجل إطلاق 5 ملايين تغريدة تضامن وتعليق على الهجوم تحت عنوان «أنا تشارلي» خلال 24 ساعة، ليصبح ضمن أكثر الموضوعات شعبية عالميًّا في تاريخ «تويتر»، تمامًا مثل نهائي كأس العالم أو حفل الأوسكار.
هناك صحف قررت إعادة طبع المجلة.. ورسامون قرروا العودة من الاعتزال للتضامن مع ضحايا الحادث، وقررت صحف من كل دول العالم تخصيص صفحاتها الأولى للحادث، بينما دخل العاملون في «تشارلي إبدو» التاريخ باعتبارهم شهداء الحرية.
المشكلة التي يعاني منها مرتكبو الحادث والمتعاطفون معهم ليست في اللجوء للإرهاب كحل لمشكلة فكرية فقط، بل في تصورهم الساذج أن العنف يمكنه هزيمة الأفكار وإخراس المسيء للإسلام، في تجاهل تام لأبجديات العصر الذي نعيشه والذي صارت حرية النشر فيه أمرًا إجباريًّا بسبب انتشار الإنترنت والتكنولوجيا.
لا يوجد في العصر الحالي شيء اسمه «منع النشر»، بل إن محاولات المنع تتسبب دومًا في انتشار الشيء المراد منعه، وخلال سنوات قليلة سيتم إلغاء أي جهة رقابية لعدم جدوى وجودها.
الأمثلة عديدة.. أمريكا فشلت في منع تسريبات «ويكيليكس» وعندما طاردت صاحبها قرر الآخرون حمايته وانهالت عليه التبرعات.. منذ أسبوعين كوريا الشمالية حاولت منع فيلم يسخر من زعيمها بالهجوم الإلكتروني على شركة «سوني» المنتجة له، فصار الفيلم الأكثر شعبية وتحميلًا في تاريخ الشركة عبر الإنترنت رغم أن مشاهدته غير مجانية.. في مصر تباهى رئيس الإذاعة بمنع أغاني المطرب حمزة نمرة فتمت مشاهدة أغاني ألبومه الأخير 13 مليون مرة خلال شهر واحد.. حتى الأنظمة العربية لم يعد في وسعها إخراس المعارضين كما اعتادت طويلًا.
ببساطة، لا سبيل لمواجهة أي فكرة دينية أو سياسية أو اجتماعية، بما فيها الأعمال المسيئة للإسلام، سوى بفكرة بديلة تحل محلها.
وإذا استخدمنا مسألة الإساءة للإسلام كمثال على القاعدة السابقة، فسنجد أن خير مواجهة للمسيء ليست بالاعتداء عليه أبدًا، بل تجاهله والامتناع عن تقديم دعاية مجانية له كما يحدث دائمًا، ثم دراسة الأفكار الواردة في الإساءات لإعداد الرد عليها بالأدلة المنطقية وباللغة التي يفهمها المجتمع المطلوب التأثير عليه.
مثلًا.. ألم يكن من الأجدى أن يتم الرد على رسوم «تشارلي إبدو» برسوم ساخرة مماثلة تُظهر معاناة الأقليات في فرنسا وغياب عدالة توزيع الفرص بين البيض وأبناء المهاجرين؟.. ألم يكن من الأفضل إنتاج فيديوهات قصيرة بالفرنسية عن الأفكار السائدة الخاطئة عن الإسلام ونشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي؟.. ألم يمكن ترجمة الرسوم الساخرة التي ينفذها رسامون مسلمون كل يوم عن التطرف والإرهاب للفرنسية حتى تفقد رسوم «تشارلي معناها»؟
كانت هناك ألف فكرة لمواجهة الإساءة للإسلام أذكى من قتل 12 شخصًا، بينهم شرطي مسلم يؤدي واجبه واسمه أحمد.. لكن كما نعلم جميعًا البعض يجد التفكير المبتكر أصعب كثيرًا من إطلاق الرصاص.
الإرهاب لا دين له.. والغباء أيضًا.
ناقشوني على تويتر @nasry