x

لحسن العسبي التوترات الإعلامية بين المغرب ومصر لحسن العسبي الأربعاء 07-01-2015 10:41


من له مصلحة في الإساءة لعلاقات مصر والمغرب؟. اعتبارا لما يمثله البلدان والشعبان معا من قوة جيو- ستراتيجية ومن عمق حضاري، فالجواب هو: الكثيرون.

و«الكثيرون» هذه تتداخل فيها أوجه مصالح إقليمية ودولية وإيديولوجية عدة، تدرك الأهمية الإستراتيجية الحاسمة، لأن تكون العلاقات بين الرباط والقاهرة، تكاملية، سلسة، مخصبة وفاعلة.

لنذكر هنا ببعض البديهيات. فمنذ الماضي البعيد، ظلت مصر منارة عند المغاربة، وظل المغرب أفقا للندية العلمية والسياسية، عند المصريين. وحين تقرر، منذ عقود، أن تكون اللجنة العليا المشتركة بين البلدين، هي الوحيدة التي يترأسها رئيسا الدولتين، فإن ذلك ترجمان للمستوى العالي لتلك العلاقة بين البلدين والشعبين والثقافتين والإجتهادين الحضاريين الوازنين في كل بلاد العرب والمسلمين. بدليل أن كل الكتابات الخاصة بالرحلات الحجازية المغربية، لمصر وبلاد النيل فيها مكانة خاصة لأهل الكنانة. وليس اعتباطا هنا، أن كبار رجالات الصوفية بمصر، الذين تقام سنويا حول أضرحتهم مواسم حاشدة، هم من أصول مغربية، نذكر منها كمثال فقط، موسم سيدي أحمد البدوي، الفاسي المغربي، بمدينة طنطا، الذي هو من مواليد مدينة فاس سنة 1200 وتوفي بطنطا بمصر سنة 1276، الذي يحج إليه ما يتجاوز 2 مليون زائر في أيام موسمه السنوي (وعلمه بالمناسبة أحمر). وأيضا سيدي أبوالعباس الأندلسي، الذي ولد بمدينة مرسية بالأندلس حوالي 1219، والذي تتلمذ على يد الشيخ الشاذلي المغربي، قبل أن يستقر به المقام في تونس بعد غرق المركب التي تقله مع عائلته صوب الحجاز للحج، ونجا هو وشقيقه فقط (لهذا السبب نجد أن ضريحه والمسجد المرتبط به في الإسكندرية بني على الطراز المغربي الأندلسي، مثله مثل مساجد قاهرة المعز الفاطمية). ثم، سيدي عبدالرحيم القناني، السبتي المغربي، الذي ولد في ضواحي مدينة سبتة المغربية حوالي سنة 1127 ميلادية، وتوفي بصعيد مصر بمحافظة قنا، حيث لا يزال ضريحه إلى اليوم سنة 1196 م. دون إغفال شخصية شيخ العرب همام، الهواري الأمازيغي المغربي، الذي أسس دولة مستقلة عن المماليك في صعيد مصر، وجعل من بلدته «فرشوط» عاصمة تنافس القاهرة لعقود. ولقد ذكر ابن خلدون قبيلة هوارة الأمازيغية المغربية وفروعها بالجزائر وليبيا، التي قضى عليها الفاطميون، قبل أن يفر ما تبقى منهم صوب صعيد مصر. وأيضا، دور المغاربة في حرب صلاح الدين الأيوبي البطل، الذي حرر القدس وخصص حيا لهم ظل قائما تحت إسم «باب المغاربة» حتى دمره الصهاينة بعد احتلال القدس سنة 1967.

هذا الماضي التليد، الغني بقوة العلاقات بين المغاربة والمصريين، صنعه رجاله في زمنهم، وقدر اليوم مفروض أن يصنعه رجال اليوم هنا وهناك. بالتالي، فإن التفاعل المغربي المصري طيلة القرن 20، مثلا، قد كان تفاعلا سياسيا وأيضا تفاعلا حضاريا. وليس اعتباطا أن أول من أدخل المطبعة إلى المغرب، هو المواطن المغربي محمد بن الطيب الروداني السوسي الأمازيغي (القاضي)، في طريق عودته من الحج سنة 1864، الذي اشتراها بالقاهرة وعاد معه المواطن المصري القباني، التقني العارف بتشغيلها، قبل أن يؤممها السلطان المغربي محمد الرابع (سيدي محمد بن عبدالرحمان) بميناء الصويرة وينقلها إلى مكناس ثم فاس، ورافق الآلة الجديدة تقنيها المصري، الذي ستصبح له حكاية بعد ذلك في فاس. مثلما أن أفكار محمد عبده ورفاعة الطهطاوي وعبدالرحمن الكواكبي وقاسم أمين وسلامة موسى، قد كان لها صداها في مراكش وتطوان وفاس وسلا ووجدة والرباط وتارودانت. على القدر ذاته الذي كان لبطولات المغاربة، خاصة ثورة محمد بن عبدالكريم الخطابي، ضد الإستعمارين الفرنسي والإسباني صداها البليغ في مخيال المصريين ووجدانهم، بذات القدر نفسه، الذي سيمثل الملك الوطني محمد الخامس عنوان شرف هناك، حتى بعد إسقاط الملكية بمصر، وكان بطلا قوميا مبجلا، لأنه أنضج مع أبناء بلده سيرة وطنية غير مسبوقة في كل دول العالم الثالث وسمت ب «ثورة الملك والشعب».

اليوم، من له مصلحة، في أن يسيئ لعمق هذه العلاقات، من خلال محاولات استغلال الفراغات التي تتركها بعض أخطاء التدبير السياسي هنا وهناك، إعلاميا (للأسف ليس للمغرب استراتيجية تواصلية إعلامية مع بلد قائم فيه اقتصاد كامل للإعلام والفنون)؟. الجواب الرصين، الهادئ، هو امتحان يخاطب، في البلدين معا ذكاء صناع القرار السياسي الإستراتيجي، ذاك الذي لا يسجن نفسه في حسابات الإيديولوجيا، بل يلتزم بمنطق رجالات الدولة. ومنذ إحدى الخرجات المثيرة للبلتاجي بصفته واحدا من قادة الإخوان المسلمين، زمن حكم الرئيس الدكتور محمد مرسي، التي استهدف فيها الإساءة لدور المغرب في المساهمة في حل القضية الفلسطينية، عبر ملف المقدسيين، طرح سؤال جدي حول المسافة في مصر الجديدة هناك، قبل ثورة 30 يونيو 2011، بين منطق الدولة ومنطق الحركة السياسية الحزبية. من حينها بدأت تتوالى الكثير من المواقف (الإعلامية) المستفزة للمغاربة، يعقبها مباشرة اعتذار بدعوى سوء التقدير. لكن توالي سوء التقدير ذاك، على قدر ما يمكن إرجاعه إلى تخبط في التدبير السياسي (عادي في مراحل انتقالية)، على قدر ما يمكن قراءته أيضا على أنه رسالة ضمنية على قلق من تنافسية قائمة بين قوتين استراتيجيتين، من قيمة ووزن المغرب ومصر، في مجالات جد حيوية، مثل شأن الإصلاح الديني ومثل لعب الدور المؤثر الحاسم أمنيا في مجال صراع إقليمي معقد مثل المجال المشرقي من سورية حتى اليمن حتى البحرين وكل الخليج العربي (هنا تضاف الأردن كدولة مؤثرة في هذا المجال الأمني). وأن هناك من يحاول استغلال ذلك التنافس العادي، الطبيعي لحسابات إقليمية أخرى، مفروض أن لا يخطئها العقل السياسي بمنطق الدولة في مصر وفي الرباط، هما الجزائر وتركيا وإيران، كل بحسابه الخاص.

إن إدراك تشابك التحولات المصطخبة في دنيا العرب، في الخليج واليمن والشام وليبيا، حيث يحضر السؤال الديني (والمغرب منارة مدرسة دينية جد فاعلة في مجال الإصلاح الديني، توازي منارة مؤسسة الأزهر الشريف)، ويحضر السؤال الأمني، هو ما يجعل الرؤية إلى تفاعل تطور العلاقات بين مضيق جبل طارق وقناة السويس، رؤية مختلفة تستوجب هدوء في التحليل، ينتصر في النهاية للمصلحة العليا الحيوية بين الشعبين المغربي والمصري. وضمن هذا التحليل، لا يمكن إغفال التأجيل المتوالي لزيارة الرئيس المصري المنتخب ديمقراطيا، المشير عبدالفتاح السيسي إلى المغرب، أمام السرعة التي تمت بها زيارته إلى الجزائر، وما تلاها من نتائج لا تزال متلاحقة. وإن من يتوهم أن المغرب سيغضبه أي تعاون تنموي مصري جزائري، فهو مخطئ، لأن منطق سمو سيادة الدول في قرارات علاقاتها الدولية لا يستقيم معه تأويل مماثل. وفي هذا الباب فإن التعاون الطاقي بين البلدين مهم، لأنه يخدم في نهاية المطاف مصلحة بلدين عربيين ويعزز من قوة التعاون جنوب جنوب عربيا ومتوسطيا، وكل نجاح فيه هو نجاح للمغرب وتونس وليبيا على ذات القدر الذي هو نجاح لمصر والجزائر. المشكل قائم، في بعض المحاولات لاستغلال «فاتورة» ذلك التعاون المصري الجزائري من قبل جهات نافذة في القرار السياسي بالجزائر، لمناوئة المغرب، بدليل محاولات جر أهلنا في مصر للغرق في وحل الفكرة الإنفصالية المناهضة لوحدة التراب للمغاربة بصحرائهم الغربية الجنوبية.

لقد سمحت لي زيارة كريمة لمصر منذ شهرين، أن أقف عند إدراك الإخوة المصريين لمخاطر ذلك المنزلق الذي يحاول الكثيرون جر القاهرة إليه في علاقتهم بالمغاربة. بل إن زيارة لمقر وزارة الخارجية المصرية ولقاء مسؤولين سامين هناك، ضمن مهامي المهنية الإعلامية، قد سمحت لي بالوقوف عند مدى الوعي هناك بأن اللعبة لن تنطلي على عقل الدولة المصري الراسخ في دربة ديبلوماسية وسياسية جد رصينة. وأن محاولات الشبكة التي تتزعمها مواطنة حاملة لجواز سفر جزائري من أصول صحراوية ( السيدة نانا الرشيد)، بأدرعها الإعلامية والفنية والجامعية، لن يكون مصيرها غير مثل مصير العنزة الناطحة الصخر لن تكسر غير قرونها الغضة. وكما عبرت عن ذلك هناك، في قلعة الديبلوماسية الرصينة بالقاهرة، وكذا بمقر جريدة «الأهرام» وللزملاء بيومية «المصري اليوم»، للإخوة المصريين، فإن الجواب التاريخي الذي مفروض أن يبلوره الواقع الجديد لمصر والمغرب، ما بعد زمن الربيع العربي، بأفقه الإصلاحي (من يتوهم أن مصر بعد 30 يونيو انتكاسة سياسية، فإنه يخونه ذكاء إدراك قوة الوعي المصري الشعبي في دعم التحول الإصلاحي القائم هناك). إن الجواب التاريخي، إذن، بمنطق الدولة، لا بمنطق الإيديولوجيا، هو بلورة دور جديد للبلدين ضمن عمقهم الآفرو – متوسطي، بفضل ما تهبه لهما الجغرافية من موقع جيو – ستراتيجي حاسم ومؤثر بين قارتين وفي قمة القارة الإفريقية شرقا ومغربا. وأن ذلك الجواب لا بد أن يتكامل على المستويات الأمنية والإقتصادية (مضيق جبل طارق وممر قناة السويس، بروح اتفاق التبادل الحر المؤطر لعلاقات البلدين ضمن ميثاق أكادير) وأيضا على مستوى الإصلاح الديني من خلال الدور الوازن لمؤسسة إمارة المؤمنين المغربية ومؤسسة الأزهر الشريف بالقاهرة. وأن ذلك مفروض أن يتوجه صوب عمقهما الإفريقي وصوب أفقهما المتوسطي أيضا، وأن ذلك سيشكل طبيعيا اللحمة لتقوية العمق العربي الشمال إفريقي. ولعل في شكل تعامل القاهرة مع الملف الليبي (الذي يسجل مسافة في الرؤية عن الموقف الجزائري)، يقدم الدليل على أن منطق الدولة منتصر في القاهرة وأنه مدرك لأهمية عمق علاقاته الإستراتيجية مع المغرب، بذات الأفق المأمول لدور تاريخي جديد آفرو – متوسطي، مفروض أن يشكل مشروع القرن 21 كله، بشكل تكاملي مع المشروع الأورو – متوسطي وأيضا مع مشروع التنمية الهائل في إفريقيا جنوب الصحراء.

إن «التوترات» الإعلامية التي تعلن عن نفسها، منذ شهور بين القاهرة والرباط، هي مناسبة كي يخطو صناع القرار السياسي الإستراتيجي بمنطق الدولة بين البلدين، صوب إعادة ترسيم جديدة لخرائط المستقبل علائقيا بين الشعبين، بما يتصالح مع قوة العلاقات التاريخية والمجتمعية بين أهل الأطلسي وأهل النيل. والكثيرون موقنون، أن للبلدين معا ما يكفي من الذكاء السياسي والتاريخي لربح هذا الرهان، عنوانا عن إضافة جيل اليوم، لمنجز أجيال الماضي القريب والبعيد، بين التجربتين الحضاريتين والمجتمعيتين المغربية والمصرية.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية