x

صلاح فضل إبراهيم عبدالمجيد يعزف لحناً جنائزياً بطيئاً صلاح فضل الإثنين 05-01-2015 22:00


«أداجيو» هو عنوان الرواية الأخيرة المثيرة للكاتب المتفرد إبراهيم عبدالمجيد، يزيح فيها عن صدره تجربة فقد مريرة عاناها منذ سنوات، وهو يبحث لها عن معادل تخييلى ينفث به وجده، ويبخر شجنه، ويكثف بالتطهير مشاعره، هو فقد رفيقة العمر التى ذاق الحياة بصحبتها، فاستحالت بعد رحيلها إلى ملاك طاهر، يقدم له روائياً طقوس المحبة بطريقة مثالية نادرة، لا تكفيراً عن ذنوبه، بل ولها مستعاداً بأثر رجعى وتفانياً معكوساً بطريقة مبالغ فيها، وأحسب أنها تجربة لا يكفى المخيال مهما بلغ نشاطه فى تشكيلها، بل لا مفر من أن نلمح فيها عصارة خبرة الكاتب وذوب قلبه وهو يقيم عالماً من الفانتازيا المشاكلة للحياة المصفاة وقد استحالت إلى لحن الوفاء الرومانسى، فى لحظة وداع بطيئة ممتدة بإيقاع «الأداجيو» الشجى المنهمل الحزين.

كان لابد للمحبوبة كى ينتصب هذا العالم أن تكون عازفة بيانو شهيرة لتأخذ الرواية جسدها الموسيقى وتحلق بروحها فى عوالم الفن المشحونة بالرقة والأسى والسمو، أما الزوج العاشق فيصوغه الكاتب من ورق شفيف، فهو رجل أعمال ناجح متخصص فى الأثاث العربى والتحف الشرقية، لكنه - على عكس ما ينتظر من أمثاله - مسكون بالتضحية والفداء، حيث يعتزل الدنيا وما فيها ليتعبد فى زوجته أسابيع وشهوراً وهى فى غيبوبة دائمة، الأمر الذى يجعل شعرية هذا النص تعتمد على تجاوز المألوف حتى تشارف منطقة الرمز القابل للدلالات المتعددة، وإن كانت تمضى فى توظيف التقنيات السردية بتمكن واضح، فتسوق حركة الأحداث القليلة، والشخصيات المحدودة فى تواشج منتظم خلال الزمن الداخلى للصوت الرئيسى من ناحية، وتمزج بين الراوى العليم وبينه بنعومة لافتة من ناحية أخرى، إلى جانب هذا المناخ الموسيقى المهيمن عليها فى إطار الإشارات الدالة الرامزة مثل الهدهد والماء والصيد وغيرها، مما يغلف الرواية بشحنة مثالية طاغية فى إيقاعها، وتقوم الطبيعة بدور هام فى خلق هذا المناخ، فنزول المطر ووميض البرق وهدير الرعد يكمل المنظومة الصوتية، كما يلعب الوصف المتقن البصرى الذى برع فيه الكاتب ورشح أعماله للتحول إلى مسلسلات تليفزيونية دوراً فى التمثيل الجمالى لدواخل الأشخاص، ويجازف الروائى ببداية عمله من لحظة الذروة تاركاً العمل كله يسبح فى سفح الأحداث، مما يهدد طاقة القارئ على المتابعة وصبره على نفسها البطىء، ففى المطلع نرى ريم وهى تعزف على البيانو مع الأوركسترا الألمانى على خشبة المسرح الكبير فى الأوبرا، ولا يلبث القلق أن يغزو وجهها الذى كان يشتعل بالبهجة «حتى إذا اقتربت من النهاية راحت تضرب على البيانو بحدة كأنما تقاوم شيئاً ينفجر فى جسدها المرتعش، كان جسمها يتزلزل وهى تقاوم ذراعيها اللذين يريدان الابتعاد عنها وشفتيها اللتين تنجذبان إلى ناحية واحدة، فتنكفئ على البيانو وتتوقف الأوركسترا لحظات فى وجوم ثم تسقط ريم على الأرض ويغلق الستار بسرعة، فى المستشفى يجدون أن ورماً استوحش فى مخها» ويكتشفون أن ما شخصه الأطباء من قبل باعتباره حالة صرع لم يكن صحيحاً بل هو الورم فى مرحلته المتأخرة.

مصائر البشر والحجر:

يتحدد منظور الرواية بهذا المطلع المأساوى عندما نرى سامر - زوج ريم - يقرر أن ينتقل بها إلى فيلته فى العجمى بعد أن يئس من الأطباء والعلاج، وأن يقوم وحده على تمريضها وخدمتها وهى فى غيبوبة متحدياً المرض والموت فى موقف فدائى أو جنونى، مستعيناً بخبرته التى اكتسبها من العمل فى المستشفى العسكرى خلال الخدمة فى مرحلة التجنيد، وهى مغامرة تخييلية مرهقة، يحاول المبدع أن يحكم حلقاتها بطريقة مقنعة، لكن شبح الموت الذى يطارده يخرج له من كل شق ليحيط به، مثلاً يستأجر تاكسى ليحمل عليه مرتبة طبية يشتريها من محطة الرمل فى الإسكندرية تحول دون تقرح جسد المريضة، فيلقاه سائق التاكسى شاكياً من الموسيقى والأغانى التى تزيد أحزانه بدلاً من الترفيه عنه «فتح السائق راديو السيارة فجاء صوت فايزة أحمد تغنى (حمال الأسية يا قلبى)، أغلق السائق الراديو على الفور قائلاً بهدوء وهو يبتسم ساخراً: تانى.. قبل أن تركب حضرتك معى فتحت الراديو فغنت فايزة أحمد نفس الأغنية، هى قسمتى ونصيبى.. لن تصدقنى، لكن هذا ما حدث، منذ توفيت زوجتى بالمرض اللعين بعيد عنك أجدها لا تغنى إلا (حمال الأسية)، (يا لولى يا غالى)، (يا تمر حنا ليه شاردة عنا) ستقتلنى يا أستاذ، كلما غيرت المحطة أجدها، اشتريت شرائط تسجيل، قلت بلاها راديو، طلبت أغانى شادية، دمها خفيف، روحت البيت وفتحت الكيس لاقيت شرائط فايزة أيضاً، البائع غلط، ربنا كاتبها لى»، ومهما كانت نبرة الحديث بسيطة ساخرة تشف عن تلقائية الرجل البسيط وكيفية تلقيه للأحزان واستسلامه للقدر فإن مطاردة الأسى له فى صوت فايزة أحمد الفاجع هو الذى بديمومة الحزن، وهو الذى يربط بين هذا السائق وسامر حتى يصبح رفيقه فى الرحلة كلها، فإذا ما حملته الصدفة ليذهب إلى علياء الطباخة فى المكس ويزورها قالت له «أبوزهرة - زوجها - تعيش إنت، مات بسبب السرطان، لا حل مع هذا المرض يا سامر بيه، المهم أن تتماسك حضرتك من أجل ابنتك نور، وترمى حمولتك على الله.. سكتت وسكت، هل جاء ليكتشف موت زوجها، السائق عثمان، أيضاً ماتت زوجته، وحين اتصلت بالجناينى وجدته قد مات أيضاً، لقد اقترب كثيراً من الموت فى رحلته لعلاج ريم، لكن الموت لايزال يحاصره».

اللافت فى هذا السياق أن انتظار الموت أمرّ من وقوعه، وقد وضع سامر نفسه فى موقف عجيب، رفض أن يعاونه أحد، ترهب ليتقرب إلى غيبوبة زوجته، رفض اتصالات أصدقائه وأحبائه كى لا يحيطهم علماً بعزلته، حتى غادة زميلة زوجته فى العمل والتالية لها فى المستوى الفنى رفض فى البداية الرد عليها مع أنه يعرف حبها له، أعرض عنها بجفاء مقصود ليتحمل بنفسه مسؤولية تمريض الزوجة وتفريغ قسطرة البول وتنظيم محلول الدواء دون الاستعانة بأحد سوى عند ارتفاع حرارتها إذ يستدعى طبيباً شاباً من مستوصف بالعجمى ليساعده فى ذلك، ساهراً الليالى بجوار جسمها المسجى على السرير مترقباً ومتوهماً أنها تشعر به أو تنادى عليه من ملكوتها السماوى، معتقداً أن وجوده معها بهذه الطريقة يمنع موتها أو يؤجله، هذا التفانى العجيب يبلغ درجة كبيرة من القسوة الغليظة عندما يأخذ سامر فى وصف جسد الزوجة المترهل وهو يضع لها «البامبرز» أو ينزعه عنها، عندئذ يشعر القارئ أنه حيال حالة سادية تتلذذ بتعذيب النفس بطريقة سوداوية مرهقة، ثم لا يلبث أن ينبثق عنصر سردى آخر يتوازى مع هذا الجسد المتآكل، حيث تبدأ المياه الجوفية فى التسرب إلى أرضية الفيلا وتشقيق جدرانها، يضطر سامر إلى تغيير الباركيه وتعلية الأرض وإلغاء درجات من السلم أكثر من مرة، يستثمر الكاتب معرفته الوثيقة بمشاكل منطقة العجمى وافتقادها للصرف الصحى وتدهور أوضاعها نتيجة للارتفاع العشوائى للعمارات الشاهقة التى أقيمت بها، مما ينتهى بالقضاء على طابعها، وهجرة سكان الفلل يجعل من المكان كياناً موازياً للإنسان الذى يتحلل بدوره ولا تجدى معه أى عناية فائقة، ثم لا يفوت الكاتب أن يستثير ذاكرة هذا المكان عندما كان يحفل بالحياة الصاخبة على شاطئ «بيانكى» وقد سمى بذلك نسبة إلى «أشيل بيانكى» السويسرى الذى أسس شركة لمواد البناء وتقسيم الأراضى منذ منتصف القرن الماضى دون أن يعرف ما آل إليه شاطئه، وكذلك مدام «هانو» اللبنانية التى كانت أول من أقام فندقاً هناك أسمته «هانوفيل»، أما البيطاش فلم تعد كلمة قبطية تعنى الحدود كما يقول البعض، ولا كلمة فرنسية تعنى البقعة الجميلة، وهنا يمزج الكاتب السكندرى الوفى الذى تغنى فى ثلاثيته بسحر مدينته وغيبوبتها بين ولائه للمكان وتجسيد رؤيته له من ناحية، وولائه للزوجة الراحلة بهذا التماهى بين المكان والإنسان من ناحية أخرى فى روائية أشبه بالمرثية النادرة فى إيقاعها وشجنها.

انتصار الحياة:

لكن هذه الرواية المرثية التى كتبت فى الظاهر بلسان الراوى العليم المختلط بوعى الزوج الشقى فى وعيه، لا تلبث أن تستدعى - على الرغم منها عدة موجات تمثل انتصاراً جزئياً للحياة، فخلال إصراره على ترسيم الفيلا يتذكر ما كانت ترغبه سيدة أحلامه من تزيينها بالألوان الزاهية، فيحضر مجموعة من العمال النوبيين يقومون بصبغها بهذه الألوان البهيجة، حيث تتجاوز الألوان البكر «من أحمر وأبيض وأزرق وأخضر وأسود وقرمزى وبرتقالى، مع الوجوه السمراء والعيون الواسعة والرموش الطويلة للنساء مع العمامة النوبية للرجال، ونرى التماسيح التى تدرأ الشر، والطيور البرية طويلة السيقان، ومواكب الحج والمحمل فوق الجبال»، لكن المياه الجوفية لا تلبث أن تصيب هذه الألوان ذاتها بالشحوب والاضمحلال فتتوارى بسرعة.

أما الموجة المتفائلة الثانية فتأتى عقب نجاح السائق عثمان فى إغرائه بالتلهى بصيد السمك معه، وعثورهما على جثة فتاة منتحرة، ونشر الصحف لهذا الخبر مما أطلع «غادة» على مكان اختفائه، فتأتى على عجل لتصحبه فى محنته وتقوم عنه ببعض العبء فى خدمة المحتضرة، هنا يغلب الروح الواقعى على الكاتب الذى أمعلن فى تصوير مثالية الزوج، فيقع فى غواية الصديقة ويتذكر تجربته فى بداية عشقه لريم مع روايات «هنرى ميلر»، «مدار الجوى»، و«مدار السرطان» ودورهما فى استثارته فيمارس باستغراق ما يفوق قدرته على التصور، حتى ليتساءل هل أحبها فى هذه الأيام التى جمعتهما أم كان يحبها من قبل دون أن يدرى بالرغم من حصارها الرقيق ومطاردتها له من قبل، لأنها بدورها فنانة حقيقية، غير أن الإحساس الممض الأليم بالذنب يطاردهما معاً فتقرر غادة مغادرته بصمت متواطئ، فإذا ما خلا إلى نفسه داهمته ذكرياته مع ريم المترجمة إلى ألحان عزفتها أمامه، لكن واحد منها يستأثر بوعيه كله، خاصة بعد أن خيل له أنه سمعها تهمس له بأن الموعد هو الخامس عشر من الشهر، ولم تكن هذه أول مرة يظن أنها تكلمت بشىء، ومع أن السياق النصى يسمح للقارئ بتصور معجزة نطق ريم بالنبوءة، كما يسمح له بأن يظن بأنه مجرد وهم يسيطر على من يستغرق فى حالات شعورية متضاربة من الإحساس بقرب النهاية والأمل فى إيقاف عجلة الزمن الحتمية «إنه يسمع أداجيو البينونى، تعشقه ريم، عرف ذلك وهو يحضر معها إحدى حفلاتها، قالت له بعد الحفل إن الموسيقار لم يشتهر إلا متأخراً رغم أن باخ تأثر به.. لا ينسى آلات الفيولين تعزف مرثية الوداع، لم لا يبتعد عنه هذا الأداجيو الجميل القاتل الآن».

أما الموجة الأخيرة من انتصار الحياة فلم تطل عليه إلا بعد أن حضرت ابنته من سفرها وقرت بها روح أمها فرضيت بالرحيل فى الخامس عشر من الشهر كما تنبأت، وجاء مدير أعماله من القاهرة بصحبة فرقة موسيقية طبقاً لما أوصاه به من قبل، حتى تكون جنازة الفنانة موكباً مشعاً بالنور والأمل، ومع أن الكاتب خط ذلك قبل جنازة صباح التى تمت بالدبكة والرقص والموسيقى غير أن هذا التوافق المدهش يعد إشارة إلى ما فى هذه الحياة من عجائب، وما للفن من سطوة، وما للسرد المفعم بالحزن والشفافية الشعرية من قدرة على التماس الحميم مع جوهر أسئلة الكون وخفاياه المدهشة كما تتجسد فى هذه الأمثولة البديعة التى تتوج مسيرة كاتبنا المسكون بالصدق والأصالة.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية