الفنان أمين ريان، كنز مصرى غاب قبل أن نعرف حقاً قيمته، ونسمع ونفهم ما كان - حقاً - يريد أن يقول، روايته «حافة الليل» عمل فنى، ووثيقة اجتماعية، وتحذير مبكر من أزمة نواجهها الآن «الرواية مكتوبة 1948 - صدرت 1954 لأول مرة» يرى أمين ريان، الذى غاب عنا أوائل هذا الشهر قبل أن يقرع عامه التسعين: يرى بوضوح أزمة المجتمع المصرى المعجون بالفن والحضارة والضمير الأخلاقى منذ فجر التاريخ، مع الفهم الدينى الخاطئ الذى يقف حائلاً دون انطلاق الحياة وتحررها، الفهم الدينى الذى يحول حياة الناس إلى «أشباح جهنمية وتشنجات مرضية» يجعل البشر يعيشون أسرى لمفاهيم غريبة عن «العورة» والذنب والخطيئة، وكأن الوجود الرحب بشمسه وقمره، وعالمه وموسيقاه وكل ما فيه من جمال قد استحال إلى متلصص ينظر للعالم من ثقب فى باب مغلق.
رحم الله أمين ريان، الكاتب والرسام ومرمم المبانى الأثرية صاحب الرحلة الحرة الطويلة التى بدأت فى روض الفرج 1925، وانتهت فى شقة فى «الزيتون» تضيق باللوحات والكتب والأحلام التى لم تتحقق.. وكانت رحبة، طيب ريحها لأن صاحبها: يؤمن بالفن والسخرية، يعيش أيامه فى رضا واستغناء: معرضى بيتى، وجمهورى الأصدقاء، لم يكن الفن مهنة للارتزاق، كنت أعمل لكى يضىء الفن جوانب من حياة الناس.
«حافة الليل» روايته المشهورة، وله غيرها خمس روايات «المعركة أو 1951 - رواية عن حريق القاهرة - مزلقان النجيلى: عن تاريخ روض الفرج - رواية الصيف - رواية: الكوشة». وبعد ذلك عدد من مجموعات القصص، كما ساهم فى إنشاء جماعة أدبية لنشر الأعمال غير المشهورة هى «جماعة 90».
فى الفن التشكيلى أمين ريان له تاريخ خاص: درس الفن فى مدرسة الفنون الجميلة القسم الحر، قبل أن يحولها طه حسين إلى كلية، تتلمذ على يد الفنان أحمد صبرى، أحد أعمدة فن التصوير المصرى الحديث، له لوحة مشهورة بعنوان «الشهيد»، صارت ملصقاً لحركات التحرير ضد الاستعمار «القديم»، ولوحة أخرى لها أهمية خاصة الآن عن حفر شعب مصر لقناة السويس «القديمة»، ولوحة قديمة مختفية بعنوان «طحن الدقيق» عن أزمة الخبز «القديمة»، اشتراها والد الملكة فريدة ولم يدفع الثمن، ولوحة عن شم النسيم «مشروعه للتخرج» اشترتها السيدة هدى شعراوى ودفعت ثلاثين جنيهاً، من أهم آثاره أيضاً: التسجيل الفريد بالرسم والكتابة والصورة لحريق القاهرة 1951، اشترك معه فى إنجازه الصحفى كمال الملاخ والرسام حسن حاكم.
لم يكن الراحل الكبير محسوباً على شلة أو اتجاه فكرى. لنجيب محفوظ فى حقه كلمة خاصة هى: أمين ريان أول من كتب عندنا بالصورة، حاول صاحب أشهر رواية تحسب لليسار المصرى «رواية الأرض» الأستاذ عبدالرحمن الشرقاوى، أن ينشر له رواية «الضيف» فى روزاليوسف عندما كان رئيس مجلس إدارة، ولكنه لم يفعل («حافة الليل» صدرت تقريباً فى نفس وقت صدور الأرض). يقول الناقد سيد البحراوى إن إعادة النظر لرواية «حافة الليل» وإنتاج أمين ريان ضرورى لتصحيح كتابة تاريخ الرواية المصرية، ويقول الناقد مجدى توفيق: إن نص «حافة الليل» قد شارك فى صنع حداثتنا القصصية، النص يحمل إهداء إلى ذكرى الأستاذ الكبير محمد مندور، وزوجته الشاعرة ملك عبدالعزيز، التى لها دراسة مهمة عن الرواية، وللأستاذ سيد الوكيل دراسة وافية جمعت أهم الكتابات النقدية عن الرواية، وينتهى إلى قول: «الرواية عمل ينتظر القارئ الذى يبذل الجهد، ويطلب المعنى وينمى الخبرة، وينشد الفهم والتواصل».
■ ■ ■
قماش غال قديم منسوج على العين واليد، يبعث حياة جماعة الرسامين والنحاتين والموديلات الذين يعيشون ويعملون بالفن فى الكلية، يصارعون الواقع المتخلف الرافض لقبول وفهم ضرورة وأهمية وجمال ما يفعلون، ومع ذلك فهم يعيشون فى وسط جزيرة الزمالك الساجية الراقية الجميلة حياة مليئة بالحب والصداقة والصراع، قماش غال قديم ينسجه أمين ريان بالشعر والصورة والحركة الدرامية والحبكة الروائية فى ثلاثة فصول متصاعدة، وكأنك أمام مسرحية كلاسيكية حسنة السبك.
الحوار عامى قح، من قلب الشارع على لسان الموديل «أطاطة ونجفة والبنت عجوة، والولد محمد، والمشرف عصفور»، والسرد شعرى حساس عميق يحمل بصراً وبصيرة وفكراً يحذرنا من المستقبل الذى يمكن أن نصير إليه.
رسم الموديل العارى كان أحد الدروس الأساسية فى تعلم فن الرسم والنحت، رسم الجسد العارى ليس كشفاً للعورة، والموديل لا ترتكب خطيئة، إنه ألف باء الرسم، حروف الأبجدية التى منها تتكون اللوحة ويكتمل الشكل. الجسد أكمل أشكال الخالق، كما أن العقل أغلى المعجزات. فى أول الرواية يقول البطل:
الأستاذ أبوالعلا هو قريبى الفنان الذى أراد أن يعود بى إلى الله فأحرق فنه، وكون تلك الجماعة الدينية التى حكمت بكفرك وزندقتك كنا فى نظر القمم: السلف الصالح والخلف المحب «لله والطبيعة» ولكننى عرفت أننا صرنا السلف الخائف والخلف المقلد.
ويقول أمين ريان على لسان بطله وهو يصف الموديل «عطيات» الشهيرة بـ «أطاطة»:
(لها رشاقة طبيعية فى جسمها وحركاتها المصرية، أما فى ألفاظها ونبرات صوتها الفطرية، فقد عرفتها تخلو من الرشاقة والرخاوة، كأنها كانت تتخذ من تلك الألفاظ والنبرات مخالب وأشواكاً تدافع بها عن تلك الثمرة الغضة التى تضعها الطبيعة فى رعايتها ومسؤوليتها ضد طفيليات المجتمع وأشراره).
هذه الموديل العاملة الكادحة التى تكسب لقمة عيشها بشرف تملك عواطف حساسة من الاختلاط مع جماعة الفنانين، لا يمكن أن تقبل أن يراها أحد عارية إلا «فنان»، عين الفنان لا تجرح ولا تشتهى ولا تجعل من عملها خطيئة.
■ ■ ■
فى منتصف السبعينيات بعد أن أطلق السادات عيار الجماعات الدينية والسلفية، خاصة فى الإسكندرية، اجتمع أستاذ الفنون بالإسكندرية «م. م» مع اتحاد الطلبة المكون من مجموعة من السلفيين وطلبوا من الشيخ جاد الحق إصدار فتوى بتحريم دراسة العارى، أصبحت كليات الفنون فى مصر منذ ذلك الحين عارية من الفن.. تأخذ العلم بالتقريب وانطلقت بعدها وحوش الخطيئة والتحريم، وغرقنا فى العورة والكفر، وأنتجنا فناً هابطاً فاحشاً بكل المقاييس. لا سامحهم الله.
ورحم الله أمين ريان الذى أطلق صيحة تحذير مبكرة لم يسمعها أحد.
«حافة الليل - رواية - أمين ريان (ط 1 : 1954) طبعة دار الشروق القاهرة 2007».