مصر مثل «فواحة العطر»، لا تظهر قيمتها إلا بالضغط عليها.
هكذا تعلمت من قراءتى للتاريخ، فهذا البلد المدهش لا يضره أكثر من الخنوع والاستسلام، و«الركنة على الرف»، أما فى حالات الخطر فإنه ينتفض حتى يدهش نفسه، ويربك أعداءه.
ربما لهذا سميت مصر «المحروسة»، وربما لهذا استغرق هيرودت فى دراسة مقوماتها الحضارية، وربما لهذا استثمر جمال حمدان عزلته فى تأمل شخصيتها وتقديم ملامح عبقريتها فى المكان والزمان.
الآن، ونحن على بوابة عام جديد، تقف مصر أمام تحدٍ صعب، طالما وقفته فى مراحل تاريخية وحضارية سابقة، منذ انتفاضة أحمس العلمية والعسكرية لطرد الهكسوس وتحرير كامل تراب الوطن منهم، بل القضاء عليهم، بحيث لم يرد لهم ذكر فى التاريخ بعد فرارهم من مصر، وحتى فى ظروف أسوأ، مثل نهاية العصر الأيوبى، تمكنت الدولة المتهالكة حينذاك من صد غزوات المغول والتتار، وحمت الحضارة من الهمجية ومسالك التوحش والقتل.
انتصرت مصر على كل المناوشات العسكرية التى استهدفتها من الجنوب والغرب، وقاومت ببسالة الجيوش الزاحفة من الشرق، فطردت الهكسوس، وطاردت الحيثيين، وتحول جيش قمبيز الفارسى إلى لغز ضائع فى الصحراء، وترنح الصليبيون فى حطين، والمغول فى عين جالوت، أما الجيوش التى كانت تأتينا من الشمال عبر البحر المتوسط، فقد ظلت هى الخطر الدائم، ورغم ذلك لم يقض هذا الخطر على المحروسة، صحيح أنه أضرها، وقطع السبيل على تقدمها الحضارى لفترات طويلة، وساهم فى تخلفها عن مسيرة التطور، لكن مصر لم تمت، امتصت جيوش الإسكندر المقدونى، وعزلت قادة الرومان فى حصونهم، وتحملت مطامع العثمانيين، ومطامح نابليون، وقطعت ذيل الأسد البريطانى، وساهمت مع العالم الحر فى تحجيم الإمبراطورية التى لم تكن الشمس تغرب عن أراضيها، وتصدت لمخطط الأحلاف الغربية فى المنطقة.
تضررنا كثيراً؟
نعم.
لكننا لم نمت، لم نتحول إلى «هنود حمر» فى متحف أنثربولوجى يديره السيد الأبيض، كنا نأكل من خير يدنا، ونطعم العالم الطامع المبتز، لم تقتلنا الحروب ولم يسلبنا الاستعمار كرامتنا، ولا هويتنا، ولا معتقداتنا، وعندما صدقنا خديعة «آخر الحروب» أكل الأعداء لحومنا، بل كنا نتلذذ بالاستسلام ونحن نصعد متلهفين على سُفُود الشواء، فقدنا الكثير والكثير بطواعية لاهية، سقطت من نفوسنا العزة، وانفرطت مسبحة القيم الأصيلة، وتشوهت صورة الذات، واهتزت المعتقدات، ولم نعد نعرف من نحن!، صرنا مسوخا باهتة، وأعداء لأنفسنا.. نبتسم للأعداء ونحن نطعن بعضنا البعض بحقدٍ وغل!
هذه صورتنا ونحن نقف متشرذمين على بوابة العام الجديد، فهل حانت لحظة الصدمة؟ وهل تكفى الصدمة للإفاقة؟ هل بإمكاننا أن نقدم للتاريخ درسا جديدا يبهر العالم، ويثبت أن هؤلاء الأحفاد التابعين الضائعين المتصارعين يمكنهم أن يستعيدوا ميراثهم الحضارى فى لحظة، وأن يعتصموا بحبل الله والوطن، فيتعاونوا معا من أجل مستقبل لا يقل مجدا عن أمجاد الأجداد؟
أسئلة الحيرة واليأس كثيرة، والواقع صعب، والظروف غير مواتية، والتحديات ثقيلة، والتشاؤم يفرض نفسه كأمر واقع، ونحن فى أسوأ حال.. احتياجاتنا كثيرة ومواردنا قليلة، عيوننا بصيرة ومتحفزة وأيادينا قصيرة وعاجزة.
بالضبط، هذا هو الضغط، هذه هى الظروف التى تبدع فيها مصر، ويتألق ناسها، نحن شعب المستحيلات الذى يفاجئ العالم دوما بما لم يكن فى حساب أحد، نحن خارج كل النظريات المعروفة سلفا، وكل قلاع الحصار، وكل زنازين اليأس، نحن أحرار بالفطرة، وجبابرة بالتجربة، ومروضون للتاريخ، لكننا نفعل ذلك فقط عندما نريد، وعندما تزداد علينا الضغوط، فهل نريد؟.. هل آن أوان «العبير المصرى» فى 2015؟
أتمنى.