حين تولى الرئيس عبدالفتاح السيسى رئاسة البلاد فى يونيو 2014، كان الموقف المصرى من أزمة سد النهضة قد مر بأكثر من تطور، فعقب ثورة يناير كانت مصر تموج بحالة غير مسبوقة من السيولة التى تكاد تنزلق إلى الاضطراب والفوضى، فتم قبول تشكيل اللجنة الثلاثية الدولية على علاتها، وفى المرحلة الثانية التى تولى فيها محمد مرسى، تعامل الإخوان مع أزمة السد بطريقة تتسم بالارتباك والتخبط، فبدأوا بالتهوين الشديد من أضرار السد، لكى يتفرغوا لأولوياتهم فى عملية التمكين، وحين تم تحويل مجرى النهر عقب زيارة مرسى لأديس أبابا مباشرة، واندلع قلق عارم لدى الرأى العام المصرى، انقلب محمد مرسى على عقبيه، وعقد الاجتماع الفضائحى الذى تمت إذاعته على الهواء مع بعض حلفائه وحوارييه، والذى حمل إساءات وتجاوزات بالغة تجاه القارة الأفريقية ككل، وأساء إلى مصر وتاريخها ودورها.
ووظفته إثيوبيا بطبيعة الحال إلى الحد الأقصى، فقامت بترجمة هذا الاجتماع إلى كل اللغات المحلية الإثيوبية ولغات أفريقية أخرى، ووزعته على نطاق واسع، وزعمت أن مصر تقف ضد تنمية إثيوبيا، وأنه بمثابة تهديد بالعدوان، فى مسعى واضح لحرف القضية عن مجراها الأساسى، الأمر الذى ترك آثاره المباشرة على فشل جولات التفاوض الثلاث التى جرت فى الخرطوم من نوفمبر 2013 إلى يناير 2014، فى ظل موقف إثيوبى متعنت للغاية يستفيد بكل الصور الممكنة من (العبط السياسى) للإخوان ومحمد مرسى نتيجة الجهل والغرض.
ولذا فقد بادر الرئيس عبدالفتاح السيسى فور انتخابه إلى تغيير مسار الأزمة والمناخ المحيط بها، لكى يعتدل الميزان. وقد نتج عن ذلك التوصل إلى «إعلان مالابو» بنقاطه الست على هامش القمة الأفريقية المنعقدة فى غينيا الاستوائية فى أواخر يونيو الماضى، مستندا إلى استراتيجية مصر الأساسية والممتدة، والتى تسعى بالأساس إلى الحفاظ على الإطار التعاونى والبحث عن الحلول الوسط، على قاعدة لا ضرر ولا ضرار.
وضع الإعلان أساسا متوازنا للوصول إلى حلول توافقية ترضى الطرفين المصرى والإثيوبى، إلا أن المفاوضات التى بدأت على أثر ذلك فى الخرطوم فى أغسطس الماضى، أفرغت الإعلان من مضمونه، عبر التركيز على نقطة واحدة هى استئناف المباحثات الخاصة باستكمال دراسات السد، فى الوقت الذى يستمر فيه البناء وتتوالى التصريحات الإثيوبية عن أن سعة السد وسياسته التشغيلية أمر يخص السيادة الإثيوبية.
وبالتالى فإن الأزمة تعود الآن إلى مرحلة ما قبل «مالابو»، ولكن الفارق هذه المرة أن موقف مصر التفاوضى قد اتضح جليا للعالم وأن مصر ساعية للتعاون والحل الوسط والنظر إلى مستقبل شعوب المنطقة. ولذا فإن هذه المرحلة من التفاوض قد استوفت أهدافها، ولابد الآن من الشروع فى تصحيح هذا المسار التفاوضى البائس، ونقله إلى مرحلة جدية تقوم على التفاوض السياسى المباشر الذى يخاطب أصل المخاوف والتهديدات التى تتعرض لها مصر.
لقد قام الرئيس السيسى بوضع الأسس اللازمة لهذا الانتقال بطريقة بارعة للغاية حين خاطب وفد الدبلوماسية الشعبية الإثيوبى قائلا: إن الإرادة السياسية والنوايا الطيبة يجب أن يتم إثباتها من خلال إجراءات عملية تحيل التوافقات السياسية إلى حقائق واقعية. وترجم ذلك بدعوته البرلمان الإثيوبى إلى إصدار قرار يشير فيه إلى حق الشعب الإثيوبى فى التنمية، وإلى حق الشعب المصرى فى مياه النيل، وفى تأمين مصالحه المائية. وكان ذلك ردا على التصريحات الإثيوبية المتكررة عن عدم إلحاق الضرر بمصر فى حين أن الواقع يسير فى اتجاه آخر تماما.
سيدى الرئيس، إن الاستمرار فى المسار الحالى أكثر من ذلك، يعنى إقرارا (سكوتيا) من مصر، بمبدأ السيادة الإثيوبية على موارد النهر، ومن ثم حقها فى بناء سدود، دون توافق ودون مراعاة القواعد الدولية، وكأن المياه ملك لإثيوبيا، فى حين أنها هبة الخالق لكل الدول المتشاطئة، وكانت تصل إلى مصر قبل أن توجد إثيوبيا نفسها على ظهر البسيطة.