راجعنى وعاتبنى لدرجة اللوم من له الحق فى ذلك، فلطالما علمنى وساندنى فى أصعب اللحظات معنويا وماديا، وكانت مراجعته متصلة بمقال الأسبوع الفائت، الذى اقتبست فيه نصوصا تتصل بتطوير الأزهر، كتبها الدكتور طه حسين فى كتابه «من بعيد» عام 1923، وقال لائمى: «كيف تكتب ما كتبت دون أن تنتبه أو تشير إلى أن ما طالب به عميد الأدب العربى عام 1923 هو ما نفذه وطبقه جمال عبدالناصر فى ستينيات القرن العشرين، عندما عمل على تطوير الدراسة فى الجامع العتيد، وأدخل فيها معظم ـ إن لم يكن كل ـ التخصصات الموجودة فى الجامعة المصرية، من طب وهندسة وعلوم وألسن وصيدلة وغيرها، وكان يهدف لوجود عالم دين مسلح بهذه العلوم، إلى جانب دراسته للشريعة وأصول الدين واللغة العربية؟!».
واستطرد لائمى الذى هو الدكتور متولى النمرسى رجل الأعمال الصيدلى، الذى ساهم فى تأسيس وإدارة شركة «فاركو» حتى نجحت، ثم أسس وأدار الشركة الفرعونية حتى تعاظمت، وكما هو ناجح فى فكره وإدارته الرأسمالية، فقد كان نموذجا للقيادى النقابى والسياسى والبرلمانى، الذى يعمل فى القطاع العام للدواء وينجح فى مهمته، مما يثبت أن الإدارة والفكر العلمى واحد وإن تعددت الأيديولوجيات واختلفت. وقلت للدكتور: لديك الحق، ولكنى سبق أن كتبت عن أن الشيخ حسن العطار أستاذ رفاعة رافع الطهطاوى كان قد طالب بما كتبه عميد الأدب العربى، وأن العطار تحدث مع محمد على باشا والى مصر 1805 ـــ 1849 فى هذا الشأن ووافقه، ولكنهما معا خشيا سطوة العلماء التقليديين، إلى أن جاء التطوير الذى أقدم عليه عبدالناصر وأيده علماء أجلاء، قد تأتى الفرصة للكتابة عنهم!
وأنتقل إلى استكمال ما وجدته فى كتاب «من بعيد»، لعميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، وفى الكتاب ـ كما سبق أن كتبت ـ عديد من القضايا التى يناقشها سيدنا الدكتور طه فى الفترة من 1923 إلى 1930 وكأنه معنا الآن، ومن هذه القضايا بعد تطوير الأزهر حديث شديد الأهمية للعميد عن العلم والثروة كتبه فى باريس يوم 11 مايو 1923 وسأقتبس نصوصا حتى لا أخطئ فى حق المعنى، الذى أراده الكاتب إذ كتب ما نصه: «فى مصر أغنياء كثيرون، ولكن معظمهم أشد بؤسا من الفقراء المعوزين، لأنهم لا يفقهون الثروة ولا يقدرونها ولا يفهمون ما ينبغى أن توجد هذه الثروة من صلة بينهم وبين مواطنيهم وهم أغنياء.
وكل حظهم من ثروتهم أن يأكلوا كثيرا ويستمتعوا بلذات مادية لا تتجاوز الحس إلى القلب أو إلى العقل. ثروتهم مقصورة على أجسامهم، فإن وصلت إلى نفوسهم فهى لا تمس منها إلا موضع الضعف والغرور، تمس الفخر والتيه، تمس العجب والخيلاء، لكنها لا تمس الذكاء ولا تمس عاطفة الرحمة بالبائس، ولا تمس عاطفة الإعانة على الخير.. فى مصر أغنياء كثيرون، ولكنهم أشد بؤسا من الفقراء والمعوزين لا ينتفعون بثروتهم أحياء ولا ينتفع الناس بثروتهم بعد موتهم. هم لا يملكون الثروة، وإنما يحملونها على ظهورهم لينقلوها من جيل إلى جيل، يحملون الثروة عن آبائهم لينقلوها إلى أبنائهم ليعبروا بها النهر، وكثيرا ما تنوء بهم هذه الثروة فتغرق ويغرقون معها، ولا يظفر أبناؤهم منها إلا بالتعس والبؤس وسوء الحال».. ويمضى العميد طه حسين ليتحدث عن أغنياء آخرين: «وفى أوروبا أغنياء ولكنهم أبعد الناس عن الفقر وأدناهم إلى الغنى حقا، لأنهم يفهمون الثروة ويحسنون الانتفاع بها فى حياتهم الخاصة، وفى حياة أممهم ومدنهم وقراهم وأسرهم، فهم يتمتعون بالثروة حقا، يجنون منها لذة الجسم، ولذة القلب، ولذة العقل، بل يجنون منها اللذة الصحيحة فى الحياة، وتخليد الاسم بعد الموت، ينفعون وينتفعون، ليسوا عالة على قومهم، وليس قومهم عليهم عالة، إنما هم يفهمون أن الثروة أداة من أدوات المنفعة العامة المشتركة، التى ينبغى أن يستمتع بها الناس جميعا كل على القدر الذى يتاح له.
هم يملكون الثروة ويحسنون التصرف فيها، لا يشترون بها الطعام والشرب واللباس فحسب، وإنما يشترون بها أيضا الحب والعطف والإجلال وحسن الأحدوثة فى الحياة وبعد الموت.. ليسوا أنعاما ينقلون الثروة من جيل إلى جيل، وإنما هم ناس يملكون الثروة ويستثمرونها فيفيدون ويستفيدون، ليسوا عبيدا للمادة، وإنما هم سادتها ويملكونها ويسخرونها لحياة الإنسان والترفيه عليه».
ثم ينتقل سيدنا طه حسين إلى الكتابة عن نماذج عملية لمن قدموا التبرعات المالية للجامعة والمدارس فى فرنسا، نماذج فيها أغنياء وفقراء لم يضنوا بمالهم على العلم وطلابه، وتعالوا نقرأ بعضا مما كتبه العميد سنة 1923: «أقرأ فى جريدة (الطان) أن رجلا أهدى إلى جامعة باريس عشرة ملايين لإقامة حى خاص يسكنه الطلبة، الذين يدرسون فى هذه الجامعة بحيث يتاح لهؤلاء الطلبة أن يعيشوا فى منازل صحية يجدون فيها ما يمكنهم من الدرس النافع بين ضروب الراحة والنعيم. وأقرأ فى جريدة (الطان) أن امرأة أوصت بثروتها كلها لجامعة باريس، وثروتها تكاد تبلغ الخمسة عشر مليونا، وأن هذه المرأة قبل أن تموت أهدت إلى كثير من الجامعات مقادير مختلفة من المال، وأنها أهدت مرة إلى جامعة باريس مقدارا من المال تنفقه فى طبع الرسائل التى يقدمها الطلبة الفقراء لنيل الدكتوراه، وأهدت مرة أخرى إلى جامعة باريس ما يمكنها من إنشاء درس لأدب القرن الثامن عشر وتاريخه..
وأن امرأة أخرى أهدت إلى جامعة باريس ثروة تغل عليها خمسة وثلاثين ألف فرنك لترقية البحث عن (الراديوم) فى الطب، وأن رجلا ترك لها نصف مليون، وأن أستاذا فى مدرسة ثانوية ترك ثروته التى تبلغ 76408 فرنكات لإعانة طلبة التاريخ الحديث، وأن امرأة تركت مليونا لإعانة المؤرخين على بحثهم التاريخى. وأقرأ فى الصحف المختلفة أن دور التمثيل والموسيقى ومنازل اللهو واللعب قد خصصت جزءا من دخلها فى يوم من الأيام لإعانة العلماء على تأسيس المعامل العلمية المختلفة، بل أقرأ ما هو أغرب من هذا.. أقرأ تعاون الفقراء والمعوزين وافتنانهم فى جمع المقادير المختلفة من المال لإعانة العلماء على تأسيس المعامل وتكميلها، وأقرأ فى الوقت نفسه مقالات طويلة ملؤها السخط والغضب والغيظ، لأن العلماء يشكون فقر المعامل ونقصها، ويستعينون بالجمهور فلا يعينهم ولا يمنحهم من المال ما ينبغى أن يمنحهم.. هذا الجود وهذا البذل اللذان أشرت إليهما فى أول هذه الكلمة لا يرضيان ولا يقنعان، ومع ذلك ففقر العلم فى فرنسا إضافى جدا، لأن الدولة والأفراد والجماعات يخصونه بعناية عظمى، وآية ذلك ما وصلت إليه فرنسا من الرقى العلمى، الذى لا يزال مطمح أمم كثيرة فى أوروبا بعد».
ولنا وقفة أخرى مع حديث سيدنا العميد طه حسين عن الرأسمالية المصرية.