اندهش وانتبه صبى محل صناعة القباقيب الخشبية عندما رأى معلمه صاحب الدكان ينتفض ليستقبل رجلا عجوزا ويسارع بإجلاسه زاعقا فى طلب الشاى، وعندما انتهت الضيافة قدم العجوز صرة من القماش لمعلمه الذى أخذها بفرحة وهو يقبل كتفى العجوز، والذى أدهش الصبى أكثر أنه تابع طويلاً العجوز وهو يرفض بإصرار أخذ نقود من معلمه وقبلها فى النهاية بعد إلحاح، بعد أن أوصل معلمه العجوز وعاد، فتح الصرة أمام صبيه كأنه يرضى فضوله، وأخرج منها سترة جلدية مهترئة عن الصدر والظهر تتدلى من غطاء جيبها الأعلى شرائط كانت فيما مضى ملونة، واحتضن معلمه السترة وهو يخبر الصبى بأن هذا الرجل كان معلمه فيما مضى عندما كان يعمل مساعد سقا، وكانت أمنيته ارتداء هذه السترة والسير بها بخيلاء كمعلمه، لكن بعد أن توسعت شركة المياه فى إنشاء الصنابير العمومية قلت الحاجة إلى السقاة، فهجر هذه المهنة إلى صنع القباقيب، وأنه بحكم العشرة كان كثيرًا ما يتردد على معلمه القديم ليقنعه بتغيير مهنته، لكنه كان يرفض لأنه كان مؤمنا بأن مهنة «السقا» لن تنتهى أبدًا، ثم أضاف صانع القباقيب بزهو: الحمد لله لأن الصلاة والوضوء هيفضلوا لنهاية الدنيا.. والناس حتحتاج القباقيب على طول.. احمد ربنا يابنى إنك اخترت المهنة الصح.
مهنة السقا ظلت فى مصر لأكثر من ثلاثة قرون، وكانت مهمتهم تزويد السكان بماء النيل بسبب ملوحة مياه الآبار، وكانت القربة التى يملأونها بالمياه ويحملونها على البغل تصنع من جلد الماعز، أما «زق» الماء الصغير المعروف بـ«الرى» ويحملونه على ظهرهم لسقاية الناس فيتكون من كيسين كبيرين من جلد الثور، والقربة مزودة بـ«بزبوز» نحاسى طويل لصب المياه فى قدح نحاسى لسقاية العابرين، وكانت هناك اختبارات لابد أن يجتازها السقا حتى يسمح له بالسقاية، ومنها أن يستطيع حمل قربة وكيس ملىء بالرمل يزن حوالى 40 كيلو لمدة ثلاثة أيام لا يسمح له فيها بالاتكاء أو الجلوس أثناء سيره، ولابد أن يتصف السقا بالأمانة وأن يكون حريصًا على عدم تلويث النهر، ويشترط أن تكون القربة غير مصبوغة حتى لا تلوث ألوانها المياه، وقد بدأ احتضار مهنة السقا فى عام 1865 بإنشاء شركة المياه التى استخدمت آلات الضخ ومدت القاهرة بأنابيب المياه.
لم يعلم صاحب محل قباقيب الخشب بأن مهنته ستنتهى بعد فترة صغيرة عندما حلت الشباشب البلاستيك بدلاً من القبقاب، وقد انتهت بعدها مهن أخرى ومصنوعات كانت مهمة فى زمنها، فمثلاً تذكرت مؤخرًا «لبيسة» الأحذية التى كنا ندس معلقتها الكبيرة خلف الكعب حتى يسهل علينا ارتداء الحذاء، وكانت فيما مضى تصنع من العاج أو العضم للأثرياء ومن المعدن الرخيص ثم البلاستيك للعامة، وقد اندثرت تمامًا اللبيسة أو كادت، وقد شاركت مؤخرًا فى مهرجان ثقافى لمؤسسة «دوم» التى أسسها بعض الكتاب ومنهم خالد الخميسى وسحر الموجى وأقيم المهرجان بالمنصورة بمشاركة بعض الكتاب والفنانين ومنهم محمود الحدينى وأشرف عبدالغفور ومحمد وفيق وخالد الذهبى وحنان مطاوع ومنال سلامة ولقاء الخميسى وسميرة عبدالعزيز وكوكبة أخرى، وقرأ الفنانون بعض الأعمال الإبداعية للكتاب المشاركين ولنجيب محفوظ فى ذكرى ميلاده، وكان الحضور كبيرًا والسبب طبعًا أن الناس أتت خصيصًا لرؤية هؤلاء الفنانين والتقاط الصور معهم وهذا جميل فى حد ذاته باعتبار أن هذه حيلة لجذب الجمهور غير المهتم بالأدب، المهم أن نجمًا شهيرًا لم يحضر مع أن اللافتات فى كل مكان كانت تعلن عن حضوره، وما أذكره لهذا الفنان دور زعيم ترى أغلب مشاهده جالسا إلى مائدة عامرة بالطعام وهو يزأر ويفتك بفخذ خروف أو جاموس، وأحيانا كنت أخاف أن يمد يده إلى عشائى «صباعين بقسماط والجبنة النستو»..المهم لما سألت عن أسباب تغيبه قالوا لى إنه طلب غرفة إضافية فى الفندق لـ«اللبيسة» بتاعته، ولأنه المهرجان بالجهود الذاتية اعتذروا عن عدم تلبية طلبه، فلم يحضر هو ولا اللبيسة، وأنا مفهمتش بصراحة ضرورة وجود اللبيسة بينما حضرته لن يمثل!.