قلق.. قلق
كل التصرفات في مصر تنبع من القلق، وتؤدي إلى القلق، الإرهاب يؤدي إلى الخوف، والخوف يؤدي إلى الإرهاب، والإرهاب يؤدي إلى القلق.
قبل ساعات أغلقت بعض السفارات الأجنبية أبوابها، وأعلنت مخاوفها من ظروف أمنية مجهولة، وقبل ذلك بوقت قصير، طلبت الخارجية الأمريكية من رعاياها فى مصر البقاء فى حالة تأهب، وشددت على موظفي السفارة توخي الحذر فى تنقلاتهم، والالتزام بمنازلهم طول الوقت إلا في حالات الضرورة القصوى.
عندما أعلنت السفارة البريطانية في القاهرة تعليق خدماتها العامة فيها لأسباب أمنية، هناك من تصور أنها تسعى لابتزاز السلطات للحصول على امتيازات أمنية، وإعادة إغلاق الطرق المرورية المحيطة بها، كما كان الحال أثناء احتلال بريطانيا لمصر، لكن السفارة الكندية أعلنت في اليوم التالي (أمس الاثنين) إغلاق أبوابها حتى إشعار آخر، وتلتها السفارة الأسترالية، وربما تعلن سفارات أخرى نفس القرار خلال ساعات.
لكن هل يعني ذلك أي نوع من الإساءة لمصر، أو يشير إلى اهتزاز الثقة في السلطة الحالية؟
يبدو السؤال بالنسبة لي ساذجا، لكننا للأسف نعيش عصر الأسئلة الساذجة، والتأويلات المريضة، والمبالغات غير المنطقية في الاتجاه وعكسه، فقد سارعت قيادات كبيرة في وزارة الداخلية لتؤكد قدرة مصر على تأمين جميع الجاليات والسفارات، واستعدادها التام لمواجهة أي مخططات إرهابية تستهدف الدبلوماسيين والجاليات الأجنبية.
وفي المقابل، هلل المعارضون لما وصفوه بـ«كارثة» إغلاق بعض السفارات، وحاولوا تصوير الأمر وكأنه قرار بقطع العلاقات مع القاهرة، في حين اكتفت الخارجية المصرية بتصريحات هادئة اعتبرت فيها قرار السفارات مجرد «إجراء احترازي» يخص سفارات هذه الدول، وليس له أبعاد أو تداعيات دبلوماسية.
في تقديري لا يجب الذهاب بعيدا في طريق البحث عن دلالات لهذه الخطوة، ويمكننا ببساطة أن نقرؤها في ضوء الحالات المماثلة السابقة، والتي تربط بين مثل هذه الإجراءات وبين اكتشاف معلومات عن مخططات إرهابية قد تهدد مقار السفارات والعاملين فيها، خاصة أن بعض المصادر الأمنية تحدثت بالفعل عن معلومات من هذا النوع تم الحصول عليها من عناصر تنتمي لتنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) بعد القبض عليهم في مصر قبل أيام.
ربما تسربت هذه المعلومات إلى السفارات الأجنبية بحسن نية أو بأساليب استخباراتية، وربما تكون هناك معلومات أخرى أكثر تفصيلا لدى مخابرات هذه الدول، لكن في كل الأحوال يظل الأمر في حدود الاحتراز من الهجمات الإرهابية، خاصة أن البعثات الدبلوماسية الغربية قد رفعت منذ فترة طويلة درجة الاحتراز الأمني، خاصة بعد حادث قصف القنصلية الأمريكية في بنغازي، الذي قتل فيه السفارة وعدد من موظفي البعثة، ومن المعروف أن الخارجية البريطانية أصدرت تنويها لرعاياها بعدم السفر نهائيا إلى سيناء، والصحراء الغربية القريبة من ليبيا.
وإذا عرفنا أن لندن قد تلقت تهديدات من تنظمات إرهابية مؤيدة لداعش، فإن قرار تعطيل العمل في مقر السفارة يصبح مفهوما في حدود التأمين، دون أي دلالات سياسية، لأن بقية الخدمات يتم تقديمها في مقار أخرى في مقدمتها القنصلية البريطانية في الإسكندرية.
أما عن قرار السفارات الأخرى، فهو مفهوم في ضوء التنسيق الأمني لدول الناتو التي تتحرك تحت مظلة استخباراتية موحدة، وقد ظهر ذلك بوضوح في صيف العام الماضي في أكبر مشهد لإغلاق السفارات الغربية بشكل جماعي في الشرق الأوسط، عندما التقطت المخابرات المركزية الأمريكية مكالمة هاتفية بين زعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري، وناصر الوحيشي، زعيم تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب، ومقره في اليمن، وذكرت مصادر أمريكية متعددة أن الظواهري طلب من الوحيشي تنفيذ عمليات ضد المصالح الأمريكية والغربية «على طريقة 11 سبتمبر»، ورد الوحيشي: «ستسمع عن عمل لن ينساه التاريخ»، وأكدت تصريحات أمريكية مسؤولة خطورة المكالمة وجدية التهديدات، وبالفعل تم إجلاء معظم الدبلوماسيين، وطلبت واشنطن من رعاياها مغادرة اليمن على الفور، وارتفع مؤشر التحذيرات، وتوالت قرارات إغلاق السفارات الغربية ليس في اليمن وحدها، ولكن في 20 دولة، وكانت بريطانيا في مقدمة الدول التي أغلقت سفاراتها ومعها فرنسا وهولندا والنرويج، وحينذاك أوضح المتحدث باسم البيت الأبيض، جي كارني، أن اتخاذ هذه الإجراءات لم يتم لمجرد اعتراض المكالمة الهاتفية، ولكن لتطابقها مع معلومات من مصادر أخرى تؤكد وصول عشرات المسلحين المدربين من تنظيم القاعدة لتنفيذ هجمات انتحارية تستهدف السفارات الغربية ومقار حكومية وعسكرية في اليمن.
وإذا كانت نفس المعلومات قد وصلت لأجهزة استخبارات هذه الدول، أو تسربت من مصادر أمنية لسفارات هذه الدول، فإن رد الفعل يكون طبيعيا، والأهم من ذلك كله يجب أن نستثمره لدى الرأي العام الغربي، لحشد التعاطف والدعم من أجل مواجهة الإرهاب، لأن قرار هذه الدول يعد اعترافا بخطورة الإرهاب، وليس انتقاصا من العلاقة مع مصر، أو تخفيضا لدرجة التمثيل الدبلوماسي، وهذا ما يجب أن يتضح للجميع بدلا من التصريحات العصبية التي تبرر بجهل، أو تلوم هذه الدول على الاحتراز من الخطر.