الكائن المسالم، والمجبول على المسالمة بشروط بيئته وتاريخ وجوده، وقناعته المتناغمة مع هذه البيئة وهذا الوجود، ماذا يفعل عندما تخرج عليه من كهوف وحشية النفوس ومغارات ضلالات الأدمغة، كائنات دموية عدمية لا تهدد سكينته فقط، ولا طريقة عيشه السلمى التى يرتضيها ولا تؤذى أحداً، فقط، بل تهدد وجوده المادى الحى ذاته؟ إنه سؤال اللحظة، وكل لحظة فى تاريخ البشرية، وتاريخ الحياة على الأرض، سؤال لم يمنحنا التاريخ إجابة عنه من زاوية الكائنات العزلاء التى تشقيها كائنات العنف، كل كائنات العنف، من أى صوب جاءت وتحت أى ذريعة عربدت، وهى قضية تستحق عميق التأمل والتمثُّل، وها هى محاولة لتحريك التأمل والتمثُّل فى هذه القضية، من خلال نظرة إلى صفحة من كتاب الكون والكائنات، كتاب الله المنظور، نطالع فيها ما حدث لمخلوق ظل على فطرته المُسالِمة آلاف السنين، ليُفاجَأ فى أخريات أيامه بجوائح من العنف والافتراس والوحشية تتهدَّدُه، وهو بلا ناب ولا مخلب. إنه «الكاكابو» KAKAPO، تُنْطَق بألفٍ ليست مُفخَّمة، وبسرعة خاطفة، اسم كائن يقرِّب تمثُّل الحالة ومحاولة فهمها، ويحيلنا إلى ما نحن فيه وما يمكن أن يكون. خاصة فى هذه اللحظة التى ينبغى أن ننتبه فيها ــ ونحن نحتج على انتقاص الحق والعدل والرشادة ــ إلى تربص الذئاب وراء الأبواب!.
فى البدء كان الغمام فوق الماء، وما إن انقشع حتى كشف عن أرض أسطورية من جبال سوامق تعتلى جزراً منعزلة يحرس عزلتها البحر فى أكثر بقاع المحيط الهادى نأياً، بقرب القارة القطبية الجنوبية، فى قاع العالم. فى هذه العزلة كانت الحياة تنمو فى سرية مطلقة مع نفسها وبيئتها، بعيداً عن البشر الذين لم يطأوها إلا متأخراً، عندما تغير اتجاه الريح وصار المحيط الهادئ هادئاً بالفعل، فموجات البولونيزيين من قبائل «الماورى» سكان الجزر المحيطة وصلوا إليها بالقوارب فى الفترة ما بين 1250 و1399 ميلادية، أما الأوروبيون فلم يصلوها إلا متأخراً جداً بالنسبة لكشوفاتهم الجغرافية، وكان أول الواصلين إليها منهم الهولندى «آبل تسمان» عام 1642، لكنه لم يمكث، إذ قتل البولونيزيون أربعة من بحارته ففَرَّ، ولم يعاود الأوروبيون الكَرَّة إلا مع المغامر البريطانى «جيمس كوك» فى 1768 ميلادية، ومن بعده قصدها الأوروبيون والأمريكيون لصيد الحيتان وسلخ جلد الفقمات ومبادلة بضائعهم، خاصة الأدوات المعدنية والأسلحة، مقابل الخشب والغذاء والمصنوعات الماورية التقليدية، والدعارة!
مرَّة كل 3ـ 4 سنوات
المستوطنون الأُول لهذه الأرض المكونة من جزيرتين كبيرتين وجزر عديدة صغيرة، منعزلة جميعها، أسموها بلغتهم الماورية «أوتياروا» أى «أرض السحابة البيضاء»، ممَّا يوحى بأن مناخها حين وطِئوها كان قد استقر وطاب وصفت الغيوم فى سلام، لكن الاسم الذى أطلقه عليها رسامو الخرائط الهولنديون «نوفا زيلاندا» تيمناً بمقاطعة «زيلند الهولندية» هو الذى غلب، ثم تحول على لسان الإنجليزى جيمس كوك إلى «نيوزيلاندا». وهنا انتهت بكارة هذا الركن من أرض الله شديد البكارة، التى تطورت ــ فى عزلتها الطويلة وبُعدها عن أيادى البشر ــ كائنات وحيوانات تغلب عليها الطيور الأشد مسالمة ووداعة فيما عرفته الدنيا والتاريخ الطبيعى للمخلوقات على هذا الكوكب، وكان هناك «الكاكابو».
كان طائراً محمياً حماية طبيعية فى بيئة لا ثدييات مفترسة فيها، ولا أفاعى، فما لزوم جناحين كبيرين مُريَّشين بريش صلب للطيران المُجهِد وليس على الأرض ما يهرب منه إلى السماء، وما لزوم مخالب للدفاع عن النفس، أو منقار صلب حاد وأسنان ماضية، لا للتقاتل حيث لا قتال هناك، بل حتى لتناول الطعام، فالعشب الطرى تحت أقدامه، والتوت البرى غزير ويسير المنال على الشجر، وأبعد من ذلك: ما لزوم التكاثر بإلحاح ووفرة، إذا كان البيض يفقس فى أمان، وتخرج منه أفراخ تنمو فى رغد ودعة، وتعيش بكامل أعدادها حتى تبلغ من العمر عتياً؟!
طائر عجيب بمقاييس الدهشة التى تستولى علينا جراء ما ألِفناه فى عالمنا من صراع، وعنف، وتنافس وحشى، ومغالبة دموية، وقد عثرت عليه بين صفحات عالم البيولوجيا التطورية «أندرو ف ريد» فشغفت به، ورحت أتعقبه، قراءةً وتوثيقاً بصرياً وصوتياً، وحيثما حل أو ارتحل أو تقلبت به الدنيا وتقلب فيها، وقد تقلَّب! هو الببغاء الوحيد الذى لا يطير، الذكر الكبير منه بحجم إوزّة سمينة بطول يصل إلى 60 سنتيمتراً ووزن يقارب 4 كيلوجرامات، وفيما عدا منقاره المعقوف ورجليه القويتين، لا يشبه الببغاوات، وجهه مستدير أشبه بوجه بومة طيبة مؤطَّر بريش حريرى، طائر ليلى ينشط فى الظلام، أجنحته صغيرة لا يستخدمها إلا فى التوازن وهو يتسلق الأشجار ليأكل من ثمارها، خاصة ذلك النوع من التوت البرى الأحمر القانى الأقرب شبهاً بالفراولة، والذى يكاد لا يوجد إلا فى جُزر عزلته الرغدة الآمنة، حيث يتجاوز الكثير من ذكوره سن التسعين! هذه كلها عوامل يراها علماء الأحياء التطورية مفسرة لتكوينه غير القتالى، فهو مكينٌ هادئ، يمشى مُترجِّحاً على الأرض فى تؤدة وإن كان يجيد تسلق الأشجار بقدميه القويتين لالتقاط ثمارها الثرَّة الطرية، وكسلاً وربما لهواً ومتعة بعد الشَبَع لا يتجشم عناء الهبوط على قدميه فوق الأغصان، بل يستخدم جناحيه وريشه الخفيف الناعم كمظلة يعود بها إلى الأرض. وكثيراً ما يبدو لعبياً لطيفاً وهو ينزلق على الأغصان نازلاًعلى قدميه بالجانب، فيما يشبه لهو الأطفال الشغوفين بالنزول ركوباً على درابزين السلالم. وربما لأن استمرار نسله محمىٌّ كفاية فى هذه البيئة، لم يجد دافعاً للتنافس الذكورى على الإناث، هذا مما يفسر به العلماء غرابة سلوكه الجنسى، فهو لا يتزاوج إلا مرة واحدة كل ثلاث.. أو أربع سنوات!.
المتوحد يعتلى القمة
طيور الكاكابو تعيش معظم فترات حياتها منفردة، تقضى وقتها فى التجوال وحيدة تلتقط غذاءها النباتى، وعندما يحين الموسم النادر للتناسل تصعد الذكور إلى ما يسمى «ساحات التزاوج»، على مرتفعات فى اتجاه الريح تتيح لكل ذكر أن يرسل نداءات رغبته إلى أنثى ما تقطن بأحد الوديان المجاورة، يحفر كل ذكر فى مُرتقاه غرفة تزاوج مجوفة بحجم كرة قدم ثم يشرع فى إطلاق صيحات الحب، يمتص الهواء ليملأ به أكياساً هوائية فى صدره وبطنه فيبدو كما لو كان بالونة منفوخة لها منقار، ثم يبدأ فى إفراغ الهواء وطرده بقوة وبطء، فيُصدر صوتاً حاداً متقطعاً يشبه صرير الجنادب يكرره 40 ـ 50 مرَّة، ثم ينتقل إلى صوت عريض رخيم يشبه ضربات القلب، وإن برنين إيقاعات الدرامز، هذا نداء الرغبة والدعوة إلى الحب، ويظل يكرر تناوب هذين الصوتين فى المكان نفسه طوال الليل، عشرة آلاف مرة فى كل ليلة، وليلة بعد ليلة يستمر فى إرسال نداءات أشواقه أربعةَ شهور دون انقطاع! نداء يمكن سماعه على مبعدة أميال فتُقبِل الإناث متهاديات، ينال كل ذكر من ترتضيه ويرتضيها ويبدأ الغزل برقصة يدور فيها العريس حول عروسه، رافعاً جناحيه المفرودين فى نشوة ودافعاً إياها بلطف إلى حفرة التزاوج، تهبط وتتكور له مستسلمة راغبة فيغطيها ويطول العناق. عناق عجيب لا يكف خلاله الذكر عن خفق وصفق جناحيه بجانبى الأنثى، فى تناوب إيقاعى متسارع وكأن محركاً كهربياً يدير حِراك جناحيه. قرابة أربعين دقيقة يستمر هذا الخفق والصفق حتى يهمد وينقشع، فتخرج الأنثى على الفور من تكورها وتغادر، دون أدنى التفاتة إلى الوراء! تمضى إلى موطنها لتستأنف عزلتها المتوحِّدة، حاملاً فى عدد من البيض المُخصَّب، لا يزيد على أربع.
تضع الإناث بيضها قليل العدد فى أعشاش عشبية مكشوفة على أرض الغابة، وتمضى كل ليلة فى رحلات بحث عن الطعام تمتد لعدة كيلومترات وقد تستغرق الليل كله، ولم يكن هذا يشكل خطورة على البيض فى الأيام الخوالى، فبعد شهر واحد يفقس وتخرج منه أفراخ تحتاج رعاية لثلاثة أشهر، تقدمها الأم آمنة راضية مطمئنة وهى تواصل سعيها للحصول على الطعام لنفسها وللمناقير الصغيرة، حتى تشتد أعواد الصغار فيستقلوا، ويذهب كل منهم لتكرار حياة آبائه وأجداده المتوحدة المنفردة، التى كانت آمنة فيما مضى ولآلاف السنين قبل أن يدهم الإنسان عالمهم.. الذى كان فريداً.
أبرياء على مائدة اللئام
أقبل البشر فتبدد أمان الكاكابو، بل صارت خِصال أزمنة الأمان والانفراد والدعة وسائل تطيح بهذا الأمان وتلك الدعة، فنداءات التزاوج التى يقصد بها الذكور دعوة الإناث للحب صارت وشايات تجتذب إليهم المفترسين الجُدد، لأن إزالة مساحات شاسعة من الغابات البكر وإحلال المزارع والمراعى مكانها، استحضرت القطط والفئران والأفاعى مع المزارعين والبذور والجذور والأغنام، ثم تلتها الكلاب البرية والذئاب والثعالب، أما الرائحة الحلوة التى تشبه المسك والمُميزة لطيور وأعشاش الكاكابو، فصارت أدلة قنص تقود أنياب ومخالب ومناقير المفترسين إلى بيض وجسوم هؤلاء المسالمين. هبت عواصف الإرهاب الدموى الذى لم تملك له هذه الطيور حيلة للمواجهة، فالكاكابو ما أن يواجَه بالقتلة الجدد حتى يتجمد فى مكانه استغراباً ودهشة، أو يلوذ بأجمات العشب وتشابك الأغصان التى يتماهى مع ألوانها لكن هيهات، فإن تكن عيون الضوارى تتوه عن الكاكابو فى هذا التمويه، إلا أن حاسة شم الافتراس الفائقة تلتقط الرائحة الحلوة لتدلها على مخابئ الصغار والكبار العُزَّل، فتحصدهم أسنان وفكوك وأنياب القتلة حصداً، مما وضع هذه الطيور على حافة الانقراض، وألقى بالأفراد القليلين المتبقين منها والمصعوقين بالرعب، فى حومة انحراف سلوكى مضحك ومحزن، فى آن!
انحدر عدد طيور الكاكابو بشكل صادم فهبط إلى نحو 45 طائراً فقط منذ عقود ثلاثة، وكانت الإناث أكثر ما قضى عليه الإرهاب الوافد، ومع ندرة الإناث والخوف والقلق الدائم لدى الذكور المتبقية، تحول سلوكهم الجنسى السابق شديد الزهد إلى ما يشبه الهوس التعويضى، فقد صاروا يتزاوجون مع جذوع وأغصان الشجر، ويقفزون على رؤوس البشر ليعتلوها كأجسام إناث تتكور للحب الموهوم، ويظل الذكر الملتاث يضرب بجناحيه على جانبى الرأس البشرى الذى يعتليه ــ كأنثى بديلة ــ ضربات مُوقَّعة بتناوب بين الجناحين منتظم سريع عنيف هائج، فى الخواء، يثير الضحك ويبعث على الأسى! وهو ما حدا بخبيرة تقويم سلوك الطيور الأمريكية «باربارا هايدنريش» إلى المسارعة بالطيران لمسافة 7400 ميل من الولايات المتحدة إلى نيوزيلندا، لتنضم متطوعة إلى برنامج إنقاذ الكاكابو من الانقراض، فندرة الإناث اللائى حصدت أغلبهن أسنان ومخالب وأنياب المفترسين لم تقلل فقط فرص التزاوج وإنتاج سلالة جديدة مما بقى من طيور الكاكابو، بل جعلت الذكور يتوهون عن مقاربة ما بقى من إناث قلائل، مُزيحين رغباتهم التى تشوهت إلى رؤوس البشر، وهو ما فسرته الدكتورة باربارا هايندريش بأنه نوع من «الرد النفسى» على إساءة البشر لهذه الطيور! وقد طبقت الدكتورة هايندريش طريقة «تكرار الدفع الإيجابى» للسلوك بتدريب ذكور الكاكابو على دمى مشابهة لإناثهن، لكن النتيجة كانت بالغة التعاسة، فقد استبدل ذكور الكاكابو رؤوس البشر بأحذية «كروكس» المطاطية المُقبَّبة الملونة فى الأقدام، وهو مما عجزت عن تفيسره خبيرة تقويم سلوك الطيور! واستلزم تدخل البشر بوسائلهم؟!
بلا نداءات حب ولا خصوصية
ماذا كان أمام الكاكابو ليفعله، وقد عاش أعماراً وأجيالاً فُطِرت على الأمان والمسالمة؟ لا شىء إلا الجمود أو الاختباء اللذين يمتلكهما فى قلة حيلته وعوز وسائله الدفاعية، إضافة للثأر النفسى العبثى البائس! ولم يكن هناك مفر من استسلام هذه الطيور العزلاء لحماية بعضٍ من بنى البشر الذين يدركون أن كل تنوع حيوى ليس مجرد إثراء لألوان الحياة، بل حفاظ على استمرار الحياة نفسها، كمنظومة يغذى كل جزء منها الآخر، تصون البيئة الفطرية وتضمن التجدد والاستدامة فى الحياة كلها شاملة حياة البشر. وفى هذا السياق قامت سلطات حماية البيئة النيوزيلندية بتفعيل برامج حماية وتكثير لهذا الطائر المغدور، وبالفعل أثمرت برامج الحماية ارتفاعاً ملحوظاً فى عدد طيور الكاكابو وصل إلى 120 طائراً منذ بضع سنوات تبعاً لما ذكرته «أليسون بالانس» باحثة البيولوجيا وصانعة الأفلام العلمية فى كتابها «تم إنقاذه من حافة الانقراض». كان هذا انتصاراً بشرياً، لكنه بالقطع لم يكن انتصاراً لكينونة الطائر التاريخية كمخلوق مسالم الفطرة آمن البيئة لا يمتلك أى وسائل تكيفية لمواجهة العنف، صار أسير حماية غيره ومُستعبَداً فى هذه الحماية، لم يعد برياً طليقاً بل داجن، أو فى طريقه الحتمى للتدجين، غدا أخرس رهين الحظائر والأقفاص والأسيجة، فى جزر معزولة تؤمِّنها مياه البحر وبنادق حماة البيئة. وهو ما رصده فيلم تسجيلى عالمى شهير حمل عنواناً بالغ الدلالة: «التاريخ غير الطبيعى للكاكابو»، فقد كان غير الطبيعى فى أخريات حياة هذا الطائر ليس فى المحميات ذات الأقفاص والحُرَّاس المسلحين وحسب، بل فى عمليات الإخصاب الصناعى القسرية والمهينة لتكثير الكاكابو، بلا نداءات حب تشبه ضربات قلب حار برنينٍ موسيقىّ،ولا انفراد آمن يناسب خصوصية الخِلقة. أليست هذه أمثولة لكيفية تشويه العنف لسوية الفطرة تتجاوز حدودها الحيوانية إلى عالم البشر، فى ملابسات مشابهة؟
العنف وتشويه الفطرة؟
أراها أمثولة، تفتح مباشرة على مأزق نعيشه، هنا والآن، فى بلدنا والمنطقة العربية التى تعصف بها جوائح عنف هى فى يقينى حرب وجود، تتقنع بأقنعة كاذبة وتتقمص أدواراً مخايلة، وتصب فى النهاية فى طاحون تدمير هذه الأمة لا تعميرها، بمخطط خارجى شديد الخبث وضيع الانحطاط، تضطلع بتنفيذه على الأرض لشديد الأسف أيادٍ محلية يحركها ـ عند أقصى حسن الظن ـ اندفاع النقمة العمياء لأسباب تنافسية سلطوية وتسلطية لا أكثر، لكن هذا الاندفاع مهما كانت تبريراته لا يُبرئها من ثقل وخطورة المسؤولية عما يتصورونه عنفاً مقدساً، وهو مُدنَّس مهما كانت معاذيره، فهو إرهاب بدأ قبل ما يزعمون أنه عنف يرد على عنف، غُرِس فى آفة الفكرة التى تنزع عن الإنسان عمق صلة الود بأخيه الإنسان، والمفضية إلى الحكم على المُغايرين بالتكفير والتجهيل وادعاء أفضلية ذوات معتنقى هذه الفكرة على من عداهم، وكثيراً ما يكون هذا الاستعلاء وجهاً من وجوه الخُيلائية الكاشفة عن شعور عميق بالنقص يؤدى إلى وحشية استباحة الغير، بعدها يسهل إهدار الدم وقطع الرؤوس وسبى النساء وبيعهن رقيقاً على قارعة أسواق نخاسة ظنناها من أغوال التاريخ التى بادت. وهذا جانب من الصورة لا يكملها ــ بالأمانة ــ إلا التحذير من رد فعل مُبالغٌ فى عنفه المادى أو المعنوى عند المواجهة، يعصف بأبرياء مسالمين لمجرد الاشتباه، مما لا يسوغه القانون أو بداهة احترام الإنسان كإنسان. لا شىء يبرر العنف تجاه المسالمة أنَّى كانت.
ويبقى أن يفهم دعاة العنف ومعتنقوه والمراهنون عليه فى مواجهة الأغلبية المسالمة العزلاء، أن البشر ليسوا طيور كاكابو، ففى تغوُّل العنف المُهدِّد لوجودهم، المادى أو المعنوى، سيجدون وسائل دفاعية للرد ، ستنتصر، تحقيقاً لقاعدة «البقاء للأطيب» التى يثبتها العلم والتاريخ، بزوال موجات العنف الدموى واندثار جينات وحوش العصور السحيقة، بينما يبقى ويستمر المسالمون العزل ــ مبدعو الحياة ومحبوها ــ أغلبيةً دائمة على كوكب الأرض، حقيقة لا يعمى عن مثولها إلا فاسدو البصر والبصيرة أو ذئاب لا ترى إلا ما تتشهاه أنيابها، تلك الذئاب التى تتربص خلف الأبواب ووراء أقنعة الخداع، فانتبهوا يا أصحاب أصفى التجرُّد وأنقى البراءة، يا طليعة وروح ثورتى 25 يناير الحضارية المجيدة و30 يونيو العادلة المُستحَقَّة، انتبهوا وأنتم تدينون كل ما يجب إدانته وندينه معكم، بسلمية وتحضُّـر، لا يُهدران ما تبقى من عافية بلدنا المُنهَك فى اشتباكات عبثية تفتح الثغرات لتسلل المتربصين ، انتبهوا حتى لا تتكرر مأساة تمهيد الأرض ــ بنية حسنة ــ لتقدم الأسوأ، انتبهوا أيها الشباب.