يقول عمانوئيل كانط، فى معرض كلامه عن علم الجمال، أو الإستاطيقا Aesthetics، إن الشخصَ الذى يقول إن لونَ عصفور الكناريا مقبولٌ، يجب ألا يمانع إذا صحّحَ له شخصٌ ما بأن الأصحَّ أن يقول: «مقبولٌ بالنسبةِ لى».
ذاك أن لكلِّ شخص ذائقتَه الخاصةَ وأسلوبَ استقباله للجمال. فقضيةُ «الجمال» تختلفُ عن مجرد «المقبولية». لأن الشخصَ الذى يُقرُّ بأن شيئًا ما جميلٌ، فكأنما يطالبُ الآخرين بأن يروا بعيونهم ما يرى بعينيه، ثم يقرّوا بما أقرَّ هو.
وهو هنا ليس فقط يتحكم فى ذائقته الخاصة، بل فى ذائقات الجميع! والخطأ الحادث هو أنه يتكلمُ عن الجمال كأنه خصيصة من خصائص الأشياء. وهذا ليس صحيحًا. فالجمال ليس «صفةً» تخصُّ شيئًا ما. الصفةُ تعريفُ الشىء، مثل: الشكل، اللون، الحجم، الملمس، الخ. لكن الجمالَ حُكْمٌ قيْمىّ يختلفُ باختلاف الشخص «المُقيِّم» هذا الشىء. ثم يميز كانط بين مفهومين مخلوطين لدينا.
يقول: «المتعةُ» تنتج حين تطفرُ البهجةُ من حواسنا، فى حين أن الحكمَ على شىء بأنه «جميل» تتحكم فيه مُدخلاتٌ ثلاث: الحواسُ، العاطفةُ، والمستوى الفكرى أو العقلى للإنسان. ثمة قيمتان تتحكمان فى الإحساس بالجمال لدى الشخص المُشاهِد شيئًا ما.
هما: إستاطيقا الشىء (القيمة الجمالية للشيء)، ثم الذائقة. والإستاطيقا هى الفكرةُ الفلسفية عن الجمال، فى حين أن الذائقةَ هى نتاجُ البيئة المحيطة والطبقة والتعليم والوعى الثقافىّ؛ ومن ثَم، فالذائقةُ يمكن تطويرُها وتغييرُها وتهذيبُها.
بعد الحرب العالمية الأولى، كفر الفنانون والمثقفون بكلِّ الأعراف البرجوازية التى أدّت إلى كلِّ ذلك الدمار الذى اجتاحَ العالم. وأدّى ذلك إلى ظهور حركاتٍ عدمية ثائرة على فكرة الجمال السائدة المستقرة فى الذهن الجَمعىّ للبشرية.
حركاتٌ مثل الوحشية والدادئية والسريالية، عملت على تحطيم كلّ التقاليد الجمالية والفنية السابقة. عام 1917 أحضر الفنانُ الفرنسيّ مارسيل دوشامب «مبولة» ومنحها اسم «النافورة»، ثم عرضها فى معرض فنىّ بوصفها قطعةً فنية!
وقال فى ذلك: «أودُّ زحزحةَ بؤرة الفنِّ عن كونه عملاً جماليًّا بصريًّا، إلى أن يغدو تأويلاً عقليًّا». صحيحٌ أن أحدًا لم يرها بوصفها قطعةً فنيّةً أبدًا، وصحيحٌ أنها اعتُبرت دعابةً فجّةً أو ما يمكن أن نطلق عليه ضدّ-فنىّ anti-art، وصحيحٌ أن تلك النافورة قد أُلقيت مع القمامة بعد المعرض وفُقدَت إلى الأبد،
لكن دوشامب نجح، مع مَن سبقه من أبناء المدرسة الوحشية والتكعيبية، فى خلخلة المفهوم القديم السائد لفكرة الجمال لدى الناس. وهو ما سيرهص لفنانى ما-بعد-الحداثة فى الستينيات الماضية الذين احتفوا بإستاطيقا القبح، أو المفهوم الصادم للجمال. فحلَّتِ الملابسُ المكرمشة محلَّ المكوية، والشَّعرُ الأجعدُ المتموّج محلَّ الناعم المنسدل.
حينما استضافنى الإعلامى حمدى رزق فى برنامج «القاهرة اليوم»، قلتُ له إننى أحبُّ الغرابَ وصوتَه، فاندهش! دائمًا ما نظرتُ إلى الغراب بوصفه جنتلمان أنيقًا يرتدى بدلة اسموكنج أسود فى رمادى فى أبيض، يقف بكبرياء لا مثيل لها. نحن نكرهه ونتشاءم منه بسبب مُحَملّنا الإرثى والثقافى والدينىّ عنه.
هو الذى أرشدَ قابيل، أوَّلَ قاتلٍ فى التاريخ، عن كيفية دفن قتيله هابيل، وبالتالى غدا الغرابُ رمزًا للموت والشؤم، وربما الغدر أيضًا. كذلك حين أرسله نوح، عليه السلام، من السفينة ليختبر وجودَ أرض يابسة، ذهب ولم يعد، فدعا عليه نوح بألا يألفه الناس.
طيب، لكن لو حررنا عيوننا من تلك المحمّلات الثقافية الفكرية الإرثية، سيكون بوسعنا أن نراه على حقيقته التى خلقه اللهُ عليها؛ كائنًا جميلاً، بصريًّا على الأقل. وسنقدر، من ثَمَّ، أن نرى كلَّ الكائناتِ جميلةً. حتى الضفدع!