بعد أحداث مدينة فيرجيسون فى أغسطس، قدمت فى هذا المكان سلسلة اجتهدت فيها لإلقاء الضوء على محنة سود أمريكا، فمقتل الفتى مايكل براون، وقتها، على يد الشرطى الأبيض دارين ويسلون كان فى تقديرى أحد تجليات المحنة، ومن شأن مجريات قضيته أن تصب فى المسار العام لكفاح السود ضد منظومة ضخمة من المظالم لا مجرد تحقيق العدل فى قضية مايكل براون. وقد عادت مدينة فيرجيسون لصدارة الأخبار بعد أن اجتاح الغضب عدة مدن أمريكية عقب صدور قرار هيئة المحلفين بعدم إدانة الضابط الذى قتل براون.
ولعل أهم ما ينبغى الالتفات له فى تطورات الأحداث هو شهادة الضابط ويلسون أمام هيئة المحلفين وما قاله فى الحوار الذى أجرته معه شبكة إى بى سى. فهو استخدم لغة تضرب بجذورها فى عمق ثقافة «التفوق الأبيض» العنصرية، التى أنتجت عبر عقود طويلة صورة نمطية للسود، ولفهم الشهادة من المهم للقارئ أن يعرف أن الروايات تضاربت بشأن واقعة القتل، لكن الثابت منها هو أن الفتى براون كان يسير مع صديقه فى عرض الطريق فاقترب منهما الضابط بسيارته وطالبهما بأن يسيرا على الرصيف فحدثت مشادة جرت بعض وقائعها بينما الضابط لا يزال فى السيارة والشاب خارجها، سمع خلالها دوى رصاص، انطلق بعدها الشاب يجرى بينما خرج الضابط من سيارته ليجرى خلفه وهو يطلق الرصاص. ثم استدار براون بينما استكمل الضابط إطلاق الرصاص حتى مات براون. ومايكل براون، (18 عاماً) الذى لم يكن يحمل سلاحاً، كان طويلاً ضخم البنيان، بينما الضابط ويلسون فى نفس طوله بالضبط، ولكنه يقل عنه وزناً بما يوازى خمسة وعشرين كيلوجراما تقريبا. لكن ويلسون الذى لا ينكر أنه قتل براون، حتى يبرئ نفسه، وجد ضالته فى استحضار الميراث الثقافى للعنصرية. فهو بعد أن وصف براون بأنه كان فى المواجهة بينهما يشبه «الشيطان»، قال إنه حاول أن يمسك بذراعه «والطريقة الوحيدة التى أستطيع بها أن أصف شعورى وقتها هو أنه شعور طفل فى الخامسة يحاول أن يمسك بهالك هولجان» (المصارع الشهير).
وأضاف أن براون، «استدار نحوى وحين نظر إلىّ، أصدر صوتا أجش مزعجا». والمعانى التى استحضرها ويلسون تأتى مباشرة من عمق التاريخ الأمريكى بإرثه العنصرى. فالصورة النمطية للسود تصور الذكور منهم بالذات باعتبارهم أقرب للسوبرمان. فالرجل الأسود، وفق تلك الصورة المصنوعة، عدوانى ولديه قدرات جسدية خرافية وربما حيوانية. وهو سريع الغضب ويستحيل السيطرة عليه فى حالة غضبه.
باختصار ويلسون قدم مايكل براون كالوحش الكاسر مما يجعله فى حالة دفاع عن النفس! والصور النمطية عموما وظيفتها نزع الإنسانية عن الآخر، وفى حالة السود وظيفتها تحويلهم لكائنات خرافية خطرة على المجتمع. ولأنها كائنات خرافية فهى لا تشعر بالألم ومن ثم ينبغى قمعها والسيطرة عليها.
ولأن واقعة مايكل براون ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، وأحداث فيرجيسون مجرد واحد من تجليات المحنة، فإن صدور القرار بعدم الإدانة هو فى تقديرى بداية لا نهاية. فهناك جيل جديد فى أمريكا صار يدرك أن التغيير الذى لم يأت على يد أوباما لن يأتى من أعلى وإنما يحتاج لحركة اجتماعية جديدة تناهض الظلم الطبقى والتمييز العنصرى معاً.